
بقلم: الشَّيخ الإمام محمّد الخضر حسين (ت 1377هـ)
(مقالٌ كتبه لمجلة “الهداية الإسلامية” – الجزء الرابع من المجلد الثاني الصادر في رمضان 1348، والجزء الخامس من المجلد الثاني الصادر في شوال 1348. محاضرة للإمام في نادي جمعية الهداية الإسلامية في يوم الخميس 9 شعبان سنة 1348، وقد نشرها ضمن الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين: المحامي علي الرضا الحسيني)
جَرَتْ حكمةُ الله على أن يبعثَ في الناس رسلاً يعلّمونهم واجبات ألوهيّته اعتقاداً وعملاً، ويهدونهم السبيل إلى الفلاح عاجلاً وآجلاً، وقضت حكمته أن تكون دعوة هؤلاء الرسل مقرونة باَيات تشهد بأنهم لم يقولوا على الله إلا حقاً، حتى تقوم الحجّة على الجاحد، فإمّا إيماناً بعد، وإما عناداً.
والآيات القائمة على أنّ محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم رسول الله إلى الخليقة حقاً، تكاد تتجاوز حدّ ما يُستقصى، وقد تتبّعها القاضي أبو بكر بن العربي عَدّاً، وأملى في تفسيره “أنوار الفجر”[1] ألف معجزة، وهي -على كثرتها، واختلاف مظاهرها- ترجع إلى ثلاثة أصول: القرآن الكريم، والسيرة النبوية، والمعجزات المحسوسة التي تُنقَلُ إلينا على طرقٍ ثابتة.
ولا أقصد في هذا المقام إلى أن أتحدَّث عن هذه الأصول بتفصيل، بل آتي عليها بالقول الموجز، وأَدَعُ بسطَ القول فيها إلى كُتُبٍ تأتي إن شاء الله، المحاضرة بعد الأخرى.
[1] (ظل كتاب «أنوارالفجر» موجودا بالمكتبات المغربية إلى حدود أوائل القرن الثامن الهجري، ويذكر الشيخ يوسف الحزام المغربي، أنَّه رآه في خزانة السلطان أبي عنان المريني بمدينة مراكش، وكان يخدم السلطان في حزم تنبع ورفعها، فمد أسفاره، فبلغت ثمانين سفرا، ويذهب أبو العباس الصومعي في كتابه « أنوار الفجر» قد تلف في حياة مؤلفة، وتابعه على ذلك، أبو العباس بين عجيبة في تفسيره الكبير على الفاتحة، بينما الكوثري عندما تحدث في مقالاته عن أنوار الفجر قال :(والمعروف أنه موجود ببلادنا -يعني تركيا- إلا إني لم أظفر به، مع طول بحثي عنه، وتذكر فهارس الاسكوريال، والقرويين، إن هناك بعض أجزاء من تفسير القاضي أبي بكر بن العربي ولم يمكن -إلى الآن- الاطلاع عليها، وعسى الأيام تكشف عن هذا الكنز الثمين) مستفاد من مقال عن ابن العربي في مجلة (دعوة الحق: العدد183) التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب، والمنشورة على الرابط:
https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/4866
* القرآن الكريم:
نزل القرآن بلسان عربيٍّ مبين، وهو يحمل دعوة حكيمة، ومعجزة باهرة:
أمَّا الدعوة الحكيمة، فهي ما أرشد إليه من عقائد سليمة، وآداب جليلة، وأحكام عادلة، ونظم عمرانية راقية، وذلك ما يدل عليه قوله تعالى: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
وأما المعجزة، فهي ما يدركه أولو الألباب من بلوغه في حكمة المعاني، وسمو المقاصد، وفصاحة الكلم، وجودة النظم غايةً فوق ما تنتهي إليه طاقة البشر، وذلك ما يدل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وكثير من حكماء العرب وبلغائهم يسمعون القرآن، فيدخل الإيمان في قلوبهم من غير حاجة إلى أقيسة منطقية: شرطية أو جملية؛ ذلك أنهم يتلقون الدعوة وهي محفوظة بدلائل الصدق من كل ناحية، وليس بينهم وبين الاهتداء بهذه الدلائل سوى التّنبّه لوجه دلالتها.
ومن شواهد التاريخ على هذا: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذ قرئت عليه سورة “طه”، فانشرح صدره للإسلام، وقال: أين رسول الله؟ فقيل له: في دار أرقم بن أبي الأرقم، فقصد إليه فوراً، وسرعان ما نطق بالشهادة بين يديه.
وينبئكم أن القرآن الحجّة النّاطقة على صدق المبعوث به: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 82 – 83]
فالآية ظاهرة في أن هؤلاء القسيسين والرهبان لم يزيدوا على أن سمعوا قرآناً يُتلى، فعرفوا فيه وجه الحق، فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
وفي قوله تعالى: {وَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] ما هو صريح في أنّ القرآن آية كافية للدلالة على صدق الدّعوة وصحّة الرّسالة.
وانظروا إلى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ] [التوبة: 6].
فالآية منبّهة لما نقول من أنّ تلاوة القرآن على الضّالّين تكفي في هدايتهم، وإقامة الحجة عليهم متى كانوا يتدبرون، ومجادلتهم-بعد إسماعهم القرآن- إنما هي لإزاحة الشبهة التي تُخالطُ أوهامهم، أو تكشف عمَّا يُلفِّقُونه من زورٍ وبُهتان.
والحقيقة أن دلالة القرآن على [صدق] محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم لا تنحصر في ناحية واحدة، بل هي ذات وجوه مختلفة، يجتليها كل من يتلوه بيقظة، أو يلقي إليه أذناً واعية.
* بلاغته:
ومن هذه الوجوه: بلوغه في فصاحة الألفاظ، وبلاغة المعاني، وجودة النظم منزلةً تقف دونها فطاحل البلغاء.
ذلك أن البلاغة لعهد البعثة المحمدية قد وصلت إلى درجتها العليا، كان العرب يتنافسون في فنونها، ويطلقون الأعِنَّة في مضمارها، حتى أتى محمّد صلوات الله عليه بما عَجَزَ عن أن يأتيَ بمثله بلغاء العرب قاطبة
ثم إنك تجد القرآن لا يتناول فنّاً من فنون الكلام إلا أتى باللفظ الرائع، والأسلوب البديع، وقصارى الواحد من بلغاء البشر أن يبرعَ في بعض فنون القول، ويضيق باعه في فنونه الأخرى، فلا يدرك فيها سوى المنزلة المتوسطة أو السفلى.
وإذا نظرتَ إلى الأفراد الذين يفوقون أقرانهم فصاحة وبلاغة، ويصبح كل واحد منهم عَلَماً في عصره يُشارُ إليه بالبنان، لم تجد منزلتهم بعيدة من منازل البارعين من غيرهم بعد أن يجعلها خارقة للعادة، كالبعد ما بين منزلة القرآن ومنازل غيره من منظوم الشعراء ومنثور الخطباء.
وإذا بدا لنا أنَّ في الإسلاميين أو المُحْدَثِين مَنْ يفوقُ بلغاء العرب يوم البعثة، فالفضلُ في هذا عائدٌ إلى القرآن؛ إذ كانوا يهتمون بنور بيانه، ويجتهدون في أن ينسجوا على منواله، وهم على ما سَنَّهُ القرآن من طرق الإبداع، وأدناه من قطوف البيان، لَمْ يستطيعوا أن يأتوا بما يدانيه، فضلاً عما يقف بجانبه.
وقد كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفصحَ العربِ منطِقاً، ونجدُ الفرق بين حديثه والقرآن الكريم جليّاً واضحاً، ومن عقد بينهما مقايسه؛ رأى حق اليقين أنَّ أولئك الذين يقولون: “إنَّ القرآن من تأليف محمد”؛ قومٌ لم يذوقوا للبلاغة طعماً، أو لم يهتدوا للإنصاف سبيلاً.
ومن تلك الوجوه: ما احتواه من الأخبار عن أمورٍ من قَبيل الغيب، وظهرَتْ بعدُ كما أخبر. من شواهد هذا الوجه: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ فقد عاش رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو محاط بأعدائه الذين يتمنّون له الموت العاجل، ويحرصون أشدَّ الحرص على أن لا يتأخّر في الحياة ساعةً من زمان، وهم أصحاب جرأة واغتيال، ولم يكن عليه الصَّلاة والسَّلام ممن يجعل بينه وبين الناس حجاباً، ولا يهتمّ بأن يتّخذ منهم حُرّاساً، وكان يضعُ نفسَهُ عندما يحمى وطيس الحرب بالمكانة الأولى، ومع ما لأعدائه من التّلهّفِ على قتله، والتّهالك على الفتك به، ومع ما لَهُ من الانفراد عن أصحابه في كل حينٍ من الأحيان، وظهوره لأعدائه كلّما رغبوا في الاجتماع به، وتقدّمه لمواقع الجهاد ليس بينه وبينهم حامية؛ لم يأته أجَلُهُ إلا وهو على فراشه، وذلك مصداق قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
ومن شواهد هذا: قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 1 – 4].
وقد وقع ما أخبر به القرآن، فعاد الروم بعد غَلَبِهِم إلى محاربة الفرس، وظهروا عليهم في السنة السابعة من الهجرة، ويَروِي أن خبر هذه الواقعة كان السبب في إسلام أناسٍ من الجاحدين غير قليل.
ومن تلك الوجوه: قوّة أدلته؛ فقد عرفنا أن محمّداً صلوات الله عليه قد نبت في وادي جاهلية، ونشأ في أمية، ونجد مع هذا حجج القرآن العقليّة القائمة نافذة، كقوله في الاستدلال على وجود الخالق: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، فإنَّ المعنى: أَوُجِدوا من غيرِ مُوجِد؟! أم هم الذين أَوْجَدوا أنفسهم؟!. وكِلا القضيّتين غيرُ صحيح، فوجب أن يكونوا صنع قادرٍ حكيم.
وكقوله في الاستدلال على وحدته تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]
وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
ففي الآيتين برهانٌ قائمٌ على وجوب وحدة الإله، وأن الألوهيّة تقضي الاستقلال بالتّصرف في السماوات والأرض تغييراً وتبديلاً، إيجاداً وإعداماً.
وكقوله -يدفع شبهة منكري البعث، ويريهم أنّه من قَبيل ما يدخل تحت سلطان قدرته-: [قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 – 79].
وهكذا نجده يأتي على شُبههم بما يُزيحها، وينادي على غَلَطهم في إيرادها؛ كقوله تعالى في الرّدّ على من ألحفوا في أن يكون الرسول مَلَكَاً: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] ، يريد: أنهم لا يستطيعون الأخذ من المَلَك وهو في صورته الملَكيّة، ولو بعثه إليهم في صورة بشر، لعادوا إلى هذا اللبس الذي يلبسون، وما كانوا مؤمنين.
فجميع حجج القرآن واردة على قانون المنطق الصحيح، ومن لم ينتفع بها، ويستقم على طريقتها، فلأنه استكبر عليها، أو لم يوقع النظر على وجه دلالتها.
قال الرازي: “وقد تأملت. الطُّرُقَ الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقربَ الطّرق طريقةَ القرآن”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأحسن الأدلة العقلية: الأدلة التي بيّنها القرآن، وأرشد إليها الرسول، فينبغي أن يُعرَفَ أنَّ أجلَّ الأدلّة العقليّة وأكملها وأفضلها مأخوذٌ عن الرسول”.
ومن تلك الوجوه: غزارة حِكَمِهِ ونبوغها؛ بحيث جاءت آخذة بأسباب السعادة، آتية على الخصال التي تسمو بها الأفراد والجماعات إلى سماء السيادة، ومن أمثلة هذا قوله تعالى:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
فمن الطبائع الغالبة على البشر: التسرُّع إلى إذاية العدو بما أمكن. ومن مقاصد القرآن: تقويم الطّباع التي تنزع إلى الأذى، وتبعث على التّقاطع، فجاءت هذه الآية تامر الإنسان بأن يسللك في دفع خصمه الطريقة التي هي أجمل؛ رجاء أن يكون لهذه المجاملة أثر صالح، هو قلب العداوة ألفة وصداقة.
ومن أمثلة هذا الوجه: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
أمر بالتثبت فيما ينقله الفاسق؛ حذراً من أن يكون حديثاً مفترى، فيكون العمل عليه على الجهالة، وعاقبة عمل الجاهل ندامة وخسران، وكم من بلاء يلحق الأشخاص أو الجماعات من اندفاعهم إلى العمل على خبر الفاسق قبل أن يتبينوا!
وانظروا إن شئتُم إلى قوله تعالى: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]، فهذه الآية نصيحة للأمة بأن لا ينخدعوا لقول لين، ووعد مؤكد يبذُلُه لهم العدو، فيركنوا إليه بقلوبهم، ولا يأخذوا منه حذرهم، فإذا هو يبسط عليهم سلطاناً طاغياً، ويريهم أنه ألانَ لهم القول خادعاً، وقطع لهم العهد غادراً، وإنّ هذه النصيحة لمن أبلغ النصائح التي تقوم عليها حياة الأمة وعظمتها، ولو حفظها المسلمون في سويداء قلوبهم، وجعلوها بمرأى من أبصارهم، لاستقاموا على عزتهم، ولم يفقدوا شيئاً من حريتهم.
ويدخل من قبيل حِكَم القرآن ونصائحه: عنايته بمكارم الأخلاق، فهو مملوء بالحثِّ على نحو الصدق، والحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والعدل، والوفاء … تلك الأخلاق التي تقوم عليها قواعد العمران، وتتأكد بها روابط التوادد والاتحاد، وبها تحرز الأمة قوة معنوية، وأخرى مادية، فلا يجد أعداؤها الطريق إلى أن يطؤوا موطئاً يغيظها.
عني القرآن بأصول الفضائل التي هي مطلع السعادة، ومن أجلّ هذه الفضائل: ما يسمونه: الشجاعة الأدبية، وهي خلق الصراحة والإقدام على قول الحق؛ فقد جاء القرآن بها على أكمل وجه، وفرضها على الناس في أبلغ خطاب، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].
فهذه الأية تأمر الرجل أن يؤثر الحق على الهوى، ولا يبالي عند إقامة الحق ما ينازعه من عاطفة القربى، وإن بلغت أشدها، وكانت عاطفته نحو والديه اللذين ربياه صغيراً.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
فهذه الآية تُذَكِّرُ الذين يكتمون ما يعرفون من الحق، وتجعل جزاءهم اللعنة من الله، ومن يتأتّى منه اللعنُ؛ من الملائكة والمؤمنين، ومَنِ الذي يجهل المفاسد التي تجري على يد عالم يشتري رضا المخلوق برضا الله، ويتبدل متاع هذه الحياة بما هو خير وأبقى؟!
وكم نتلو في القرآن من أنباء دعاة الإصلاح ما شأنه أن يطبع النفوس على خصلة الجهر بالحق، والدعوة إلى الاصلاح، وإن وجدوا الناس على أهواء غالبة، ولقوا في سبيل الدعوة أذى كثيراً. ومن أوضح الآيات في هذا المعنى: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71].
فالأمة التي تملك الشجاعة الحربية لا تصل إليها يد العدو بأذى، فإذا ضمَّت إلى ذلك الشجاعة الأدبية، استقامت شؤونها الداخلية، وأمنت من أن يفسد عليها رؤساؤها أمر سياستها، أو يضلوا السبيل، فيهيئوا لأبنائها مستقبلاً منكراً شقياً.
ومن تلك الوجوه: ما أتى فيه من كلمات العتاب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على أشياء فعلها، أو همَّ أن يفعلها، ووجه دلالتها على أن دعوته لله خالصة: ما نراه في طبائع الرجال، ولا سيما ذوي المكانة في قومهم؛ من أنهم يحرصون ما استطاعوا على أن تكون جميع آرائهم في نظر الناس سديدة، وجميع أعمالهم حكيمة ولو كان محمد صلَّى الله عليه وسلَّم من أولئك الذين يّدعون القرب من الله، والكرامة عنده رياء وخداعاً، وكان هذا القرآن من تأليفه -كما يزعم الجاحدون- لوجد نفسه في غنى عن هذه الآيات التي تحمل وتدلُّ قراءها على أنه فعل خلاف ما هو الأولى.
لو كان القرآن من تأليف محمد عليه الصّلاة والسّلام، وكان محمد من عظماء الرجال فقط، دون أن يكون مبعوثاً من الله هادياً ونذيراً، لَمَا أودع في الكتاب آية: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 – 10].
وقد كان لمحمّد صلوات الله عليه أن يعتذر لابن أم مكتوم حين انصرف عنه بوجهه بأنه كان يرجو هداية أولئك الغاوين الذين تصدّى لدعوتهم، وكل أصحابه يتلقّون هذا العذر بقبول، ولكنّ الله تعالى يُريدُ أن يُعلّمنا أن للنّفوس الزّاكية مزيداً وفضلاً على النفوس الطاغية، فليس لأحدٍ أن يعبس في وجه نفسٍ تطلب الخير، ملتفتاً عنها إلى نفس مضروبةٍ في الغواية.
* السيرة النبوية:
سنَّة الله في الخليقة: أنَّ من تظاهرَ بغير ما هو واقع، وادّعى لنفسه ضرباً من ضروب الكمال زوراً ورياء، فلا بدَّ أن يفتضح أمره، ولو بعد أمد، ثم لا تكون عاقبته إلا خساراً وهواناً، والشأن في فضيحته ووخامة عاقبته أن تكونا على قدر ما يدعيه لنفسه من كمال واصطفاء، ولا كمال ولا عظمة للإنسان فوق مقام الرسالة والنبوة، فمن ادّعى هذا المقام؛ فقد ادّعى أقصى ما يمكن للبشر إدراكه، وادّعى أنه أقرب الناس، أو من أقربهم إلى رب العالمين.
فلو أن محمّداً صلوات الله عليه ادّعى الرّسالة بغير صدق؛ لاستبان لمن اتّبعه من ذوي العقول الكبيرة شيءٌ مما ينقض هذه الدعوى، وقد عاش نبيّ الله بعد دعوى الرسالة نحواً من ثلاث وعشرين سنة، وهي مدّة بالغة من الطول ما فيه كفاية لمن أراد أن ينظر في هذه الدعوى من كل ناحية، ويرقب سيرة صاحبها؛ لعله يقف على أثر يدلّه على أنه يُظهِرُ غير ما يُبطِن، أو أنه يقول على الله ما لا يعلم.
ومن شواهد أنّ سيرته عليه الصَّلاة والسَّلام كانت نقية من كل ما يخدش في دعوى الرسالة: أن أشد الناس إيماناً به، وأملأهم قلوباً بمحبته وإجلاله، هم أطول الناس صحبة له، ومن لا يكادون يفارقونه إلا قليلاً؛ كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ليس في سيرة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ما يُدخِلُ الرَّيب في صحة رسالته، فسيرته من أعظم الدلائل على أنه يحمل نفساً بالغة من العظمة ما لا يبلغه الإنسان الذي يطلب العلا من نفسه، ولو بلغ من العبقرية ما بلغ، ولُقِّن من الحكمة ما شاء أن يُلقَّن.
نرى في محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم رجلاً نهض بأمّة عظيمة في نحو عشرين سنة، كانت متفرّقة متشاكسة، فأصبحت متّحدة متآلفة. كانت الأمم تنظر إليها بعين الازدراء، فاصبحت معزَّزة الجانب، تفتح البلاد، وتضرب على هذه الأمم بسلطانها الكريم. كانت في ظلمات من الجهل، فأصبحت في نور من العلم دون أن يجلب إليها من بلاد أجنيية، وإنما هو ذلك الرجل الناهض بها يلقي إليها الحكمة بنفسه، ويزكّيها بما يتحلّى به، أو بما يدعوها إليه من خصال الشرف والحمد.
نرى في محمد صلَّى الله عليه وسلَّم رجلاً أقام بين هذه الأمة شريعة تقرر حقوق الأفراد والجماعات، وتشتمل بتفاصيلها وأصولها على كل ما تحتاج إليه في فصل القضايا من أحكام هي مظهر العدل والمساواة، ولم يعقد لهذه الشريعة لجنة تتألف من أشخاص درسوا قوانين بعض الأمم، وإنما هو ذلك الرجل الناهض بها، يملي عليها أحكام الوقائع، مدنية كانت أو جنائية، يمليها عليها في الحضر والسفر، يمليها عليها في يوم السلم، أو في مواطن القتال.
نرى من محمد صلَّى الله عليه وسلَّم رجلاً يستخفّ بأشياع الباطل، ولا تأخذه الرهبة من كثرة عددهم، ووفر أموالهم، فيلاقيهم بالفئة القليلة، ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، ولم يكن بالرئيس الذي يبعث بالجيش إلى مواقع القتال، ويقعد خلافهم حذراً من الموت، بل ترونه يقود الجند، ويدبر أمر القتال بنفسه، ويقابل الأعداء بوجهه، ولا يولّيهم ظهره، وإن تزلزل موقف جنده، وانصرفوا من حوله جميعاً.
نرى من محمد صلَّى الله عليه وسلَّم رجلاً يصرف عنايته في تزكية الأمة، وتدبير شؤونها، والقيام بجهاد عدو هاجم، أو عدو متحفز للهجوم، ولم تشغله هذه الأعمال الخطيرة عن أن يقوم الليل قانتاً لله متهجداً، ثم يملأ جانباً من النهار في عبادة ربه متطوعاً.
نرى من محمد صلَّى الله عليه وسلَّم رجلاً زاهداً في متاع هذه الحياة، ولو كان للشهوات عليه من سبيل، لذهبت به في ابتغاء العيش الناعم مذهبَ أولئك الذين يتظاهرون بالزهد إذا لم يجدوا، حتى إذا ما أيسروا، ورأوا زهرة الحياة الدنيا طوعَ أيمانهم؛ خلعوا ثوب الزهد، وتحولوا إلى طبيعة الشره كثيراً أو قليلاً.
أما تعدُّدُ زوجاته عليه الصّلاة والسّلام؛ فقد كان لمصالح جليلة، ومقاصد نبيلة، ندع تفصيل القول فيها إلى محاضرة أخرى.
وهل في ميسور ذلك البائس الذي يجحد عظمة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدلنا على رجل ألَّف بين أمّة متفرّقة، ثم أفاض عليها حكمة بالغة، وأقام فيها شريعة عادلة، وجعلها -وهي فئة قليلة- تظهر على الأمم الكثيرة، دون أن تكون أكثر منها مالاً، وأجود منها سلاحاً.
ثم إذا نظرنا إلى هذا المصلح الكبير، والمشرع الخطير، والمجاهد الظافر، نجده طلق اليد إذا بذل، واسع الحلم إذا أوذي، صادق اللهجة إذا حدّث، وبعبارات أوجز: نجده المثل الأعلى لكل خصلة تطمح إليها الهمم الكبيرة.
إن هذا إلَاّ محمد بن عبدالله الذي بعثه الله في الأميين رسولاً.
وقد دلَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه على أن خلقه عليه الصَّلاة والسَّلام بالغ من الكمال غاية تنقطع دونها الآمال، فقال حين تشاغل بحرب أهل الردة، واستبطأته الأنصار: “أما كلفتموني أخلاق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فوالله! ما ذاك عندي، ولا عند أحدٍ من الناس”.
* المعجزات المحسوسة:
الإسلام دينٌ عام يتوجّه الخطاب به إلى كل قبيل، ولا يختصّ به جيل دون جيل، ومن أجل هذا جعل الله تعالى لصدق المبعوث به دلائل تُدرَكُ بالعقل، حتى يمكن للأجيال -على اختلاف أزمنتها- أن تهتديَ بها، فيكون إيمانها عن بيّنة لا عن تقليد، وقد عرفنا أن هذه الدلائل ترجع إلى ما احتواه الكتاب العزيز من حكمة وبلاغة، ثم إلى أخلاق الرسول، وسيرته العملية المنقولة إلينا على طرق صحيحة.
وهناك نوع ثالث من أعلام النبوة شهده الناس الذين أدركوا عهد البعثة نسميه: المعجزات المحسوسة، وشأننا في هذا أن نُضيفَه إلى تلك الدلائل المعقولة متى كان سنده صحيحاً، ووسعته دائرة الإمكان، ولهذا النوع من المعجرات أثر في زيادة الإيمان، وإن نقل إلينا على طرق الآحاد، فإن أخبار الآحاد المستوفية لشروط الصحة يفيد كل واحد منها ظنّاً قويّاً، والدلائل الظنية إذا تعددت، وأخذ بعضها برقاب بعض؛ أصبحت بجملتها كالخبر المتواتر، لا تقصر عن أن تضع في النفس اعتقاداً جازماً.
درسنا هذا النوع من المعجزات، فوجدناه يُروى بأسانيدَ متينة إلى أمة كبيرة من أكابر الصحابة؛ كعبدالله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعدي بن حاتم، وعائشة أم المؤمنين، وعمران بن جصين، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجماعة من غير هؤلاء، ويرويه عن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جماعات من أهل العلم والتقوى، حتى يتصل بأمثال الإمام مالك بن أنس، والإمامين: البخاري، ومسلم.
ومن أمثلة هذا النوع: إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم بغيوبٍ واقعة؛ كنعيه للنجاشي يوم موته، وقوله للصحابة: «مَاتَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ»[1] أو إخباره بغيوب مستقبلة؛ كقوله لعدي بن حاتم: «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى»، قال عدي بن حاتم: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى.[2]
ومن أمثلة هذا النوع: دعاؤه صلَّى الله عليه وسلَّم، واستجابة الله له في الحال؛ كواقعة استسقائه وهو قائم في خطبة الجمعة، والسماء مصحية، فما انتهى من الخطبة حتى أرسلت السماء مدراراً إلى غير هذا مما لا يسع المقام الحديث عنه بتفصيل؛ كوقائع تكثير الماء أو الطعام القليل، وآية انشقاق القمر التي لم تبلغ شُبَهُ منكريها أن تُضعِفَ الثّقة بصحة روايتها ذاتِ الطرق المتينة المتعددة.
[1] رواه البخاري في صحيحه في كتاب مناقب الأنصار: باب موت النجاشي.
[2] رواه البخاريُّ في صحيحه في كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام.
وهذا النوع من المعجرات قد يُقصَدُ به إقامة الحجة على الجاحدين الذين يؤخذون بالدلائل المحسوسة أكثرَ مما يؤخذون بالدلائل المعقولة، وقد يجري بمحضر المؤمنين؛ لتطمئن قلوبهم، ويزدادوا إيمانا على إيمانهم، ومنها ما يشهده الرسول وحده؛ ليرى من آيات الله ما لم يكن قد رأى؛ كواقعة الإسراء، وعلى هذا يدل قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
فمن تدبر القرآن الكريم، ودرس السيرة النبوية بعقل سليم، ونظر فيما يرويه أئمة الحديث من المعجرات نظرَ الراسخين في العلم؛ لم يكن منه إلا أن يكون مسلماً؛ عقيدة قيَّمة، وعملاً صالحاً.
Hi, this is a comment.
To get started with moderating, editing, and deleting comments, please visit the Comments screen in the dashboard.