بحوث ومقالات

‌‌الشَّمائِلُ المحمّديّة

بقلم: الشَّيخ الإمام محمّد الطّاهر بن عاشور (ت1393هـ)

 (مقالٌ كتبه للمجلة الزيتونية، المجلد 1، العدد 9، ربيع الأنور 1356/ مايو 1937 (ص 452 – 456)، ونشره الأستاذ محمد الطاهر الميساوي في (جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور) المنشور في دار النّفائس للنَّشر والتّوزيع في الأردن)

‌‌مقدمة:

لا أحسبُ مسلمًا يُخيَّرُ في أيِّ الأماني أحبُّ إليه أن يُحصِّلَ -بعد تعدادها- ثم لا يكون مختارًا منها أن يرى ذاتَ نبيّه محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم.

وإذا كان رسولُ الله قد تمنَّى أن يرى مَنْ يجيء بعده من المسلمين لمحبّته أمّتَه كما في الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله قال: “وَدِدْتُ أَنّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإخْوَانِي الّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ علَى الْحَوْضِ[1]“.[2]

[1] “وأنا فَرَطُهُم على الحوض” أي: متقدّمهم إليه، قال ابن الأثير في كتابه (النِّهاية في غريب الحديث والأثر): (يُقال: فَرَطَ ‌يَفْرِطُ، فَهُو فَارِطٌ وفَرَطٌ إِذَا تقَدَّم وسَبَق الْقَوْمَ ليَرْتادَ لَهُمُ الْمَاءَ، وَيُهَيِّئَ لَهُمُ الدِّلاء والأَرِشيَة).

[2] أخرجه مالكٌ في (الموطَّأ: كتاب الطهارة: باب جامع الوضوء)، والحديث في (صحيح مسلم: كتاب الطهارة: باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء).

فكيف لا تكون شِدَّةُ حُبِّ الأمّة نبيّها مبعثَ تمنّيهم أن يروه؟!

فلئن فاتَهم إمكانُ رؤيةِ ذاته الشّريفة، فلهم في التّعلّق بصفاته سلوى، كما قال البوصيري:

فَتَنَزَّهَ فِي ذَاتِهِ وَمَعَانِيهِ … اسْتِمَاعًا أَنْ عَزَّ مِنْهَا اجْتِلَاءُ[1]

ولأجل هذا، تنافس السلفُ الصالح -الذين لم يشاهدوا ذاتَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو لم تعلق تفاصيلُ صفاته المباركة بمخيّلاتهم لصِغَرِ سنّهم حين رأوه- دائبين على طلب تعرُّف صفاته عساهم أن يتلمَّحوا من تلك الصفات ملامحَ ذاته المباركة. فقد سأل الحسنُ والحسين رضي الله عنهما خالَهما هند بن أبي هالة[2]-وكان وصَّافًا- عن صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وسأل الحسين أباه عليًّا رضي الله عنهما، ثم حدَّث بها أخاه الحسن. (2)

وقد استشعر مَنْ بقيَ من الصحابة أهمّيّةَ جمع صفات رسول الله لِمَنْ يأتي من أمّته، فظهر منهم حرصٌ على تحديث الناس بذلك، فكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى أحدًا من الأعراب أو أحدًا لَمْ ير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول له: ألا أصف لك النبي؟ ثم يفيض في وصف شمائله.[3] وجاء رجلٌ من بني عامر إلى أبِي أمامة الباهليّ فقال له: “يا أبا أمامة إنك رجلٌ عربِيٌّ إذا وصفتَ شيئًا شفيت منه، فصِفْ لِي رسولَ الله كأنِّي أراه”، فأفاض أبو أمامة في ذكر شمائله صلَّى الله عليه وسلَّم.[4] فصار مثل المسلمين في ذلك كمثل قول الشاعر [بشار]:

قَالُوا بِمَنْ لَا تَرَى تَهْذِي فَقُلْتُ لَهُمْ … الأُذْنُ كَالعَيْنِ تُؤْتِي القَلْبَ مَا كَانَا[5]

وإن محبّة الذات تقتضي محبّةَ ذكرِ صفاتها، كما أن محبّةَ ذِكر الصّفات تقتضي المحبّةَ من صاحب الصّفات، بما دلّ عليه حديثُ عائشة رضي الله عنها في الصّحيحين أن رجلًا كان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ “قل هو الله أحد”، فذكروا ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: “سلوه لأيّ شيءٍ يصنعُ ذلك”، فسألوه فقال: لأنها صفة الرّحمن، وأنا أُحِبُّ أن أقرأَ بها، فقال النّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أخبروه أنَّ الله يُحِبُّه”.[6]

ولقد يسَّر الله للمؤمنين أن ألْهَمهم البحثَ عن شمائل رسول الله قبل انقراض عصر الصّحابة، ليبقى منها أثرٌ قائمٌ لِمَنْ يأتِي من المسلمين في سائر العصور والأجيال، يَرُدُّ على قلوبهم روحًا يهبُّ على لهيب أشواقهم إلى ذات نبيّهم. فانبرى المسلمون في آخر عصر الصحابة إلى تقييد هذه الصّفات المباركة، كما يُنبِئُ بذلك وجدانُنا معظمَ أحاديث شمائله صلَّى الله عليه وسلَّم مرويًّا عن المعمَّرين من الصّحابة؛ مثل ما يُرْوَى عن أنس بن مالك وسهل بن سعد وأبي الطفيل عامر بن واثلة[7] آخر أصحاب رسول الله وفاة، أو عمن ثبتت لهم الصّحبةُ بالمولد، الذين كان لهم بِخَاصَّةِ أصحاب رسول الله اتّصال؛ مثل الحسن والحسين فيما روياه عن أبيهما كَرَّمَ الله وجهه أو عن خالهما هند بن أبي هالة رضي الله عنهم.

[1] من قصيدته الهمزيّة التي مطلعها: كَيْفَ تَرْقَى رُقِيَّكَ الأَنْبِيَاءُ … يَا سَماءٌ مَا طَاوَلَتْهَا سَمَاءُ

[2] هو هند بن أبي هالة، أمه خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها، فهو ربيب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأخو فاطمة لأمّها، فلذلك دعاه الحسن والحسين خالَهما، توُفِّيَ يوم الجمل سنة 36 هـ مع جند علي رضي الله عنه (تعليق الإمام الطَّاهر بن عاشور).

[3] يُعلِّق الأستاذ محمد الطاهر الميساوي في تحقيقه لمقاله الشّيخ الطّاهر: (لم أتمكن من العثور على هذا الأثر فيما أمكنني مراجعته من مصادر السيرة والشمائل، ولعل قارئًا ناصحًا يفيدني في ذلك).

[4] رواه الزُّهري في كتابه (الطبقات الكبير:ج1:صفحة357).

[5] من قصيدة للشَّاعر بشَّار بن برد، مطلعها: يَا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ … وَالأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانَا

[6] رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

[7] أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، صحابي، وهو آخر من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وفاةً بالإجماع، قال: “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجنه”، وذكر صفته، قيل إنه أدرك من حياة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ثماني سنين، تُوُفِّيَ سنة 100 هـ.

وقد كان أصحاب رسول الله إذا رأوا رجلًا يُشبِهُ رسول الله اهتزّت أنفسهم إليه شوقًا إلى شبيهه، فقد كان أبو بكر إذا رأى الحسنَ بن علي رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله يقول: “بأبي شبيهٌ بالنّبيّ، ليس شبيه بعليّ”.[1] وكان كابِس بن ربيعة[2] يشبه النّبيّ صلَّى الله عليه وسلم، فكان أنس بن مالك إذا رآه بكى، وبلغ خبرُه إلى الخليفة معاوية رضي الله عنه (وهو من أعرف الناس بصفة رسول الله؛ إذْ كان صاحبَه وصهرَه وكاتبَ وحيه)، فأرسل معاوية في أن يوجَّه إليه كابس من البصرة إلى دمشق. فلمَّا دخل عليه قبَّل معاوية بين عيني كابس، وأقطعه قطيعة. وكانوا يُحصون الصحابةَ الذين يُشبِهون رسولَ الله في كثيرٍ من شمائله، ويُحصُون مَنْ كان يشبهه من التابعين، فمثلهم كمثل قول الشيخ ابن الفارض:

وَأَبِيتُ سَهْرَانًا أُمَثِّلُ طَيْفَهُ … لِلْعَيْنِ كَيْ أَلْقَى خَيَالَ خَيَالِهِ[3]

ثم انقرض عصرُ الصحابة، فغفل الناسُ عن معرفة مَنْ يشبه الذين يُشبِهون رسول الله؛ لأن المشابهة في ملامح الذّات لا يتوسَّمُها إلا الذي عَرَفَ الذَّاتَ فتحصلُ له عند رؤية مُشابِهِ الذَّات لمحةٌ من طَلْعة الذَّات المشبَّه بها، فهناك يتوسَّم الذَّات اللائحة حتى يعرف من أين جاء الشّبه فيصفه، وسنذكر أسماء من أحصيناهم من هؤلاء السَّادة في آخر هذا المقال.

[1] رواه البخاري في صحيحه في: (كتاب المناقب: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلّم)، و(كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما).

[2] كابس -بكاف في أوله- بن ربيعة، من بني سامة بن لؤي، من أهل البصرة، تابعي (تعليق الإمام الطَّاهر بن عاشور).

[3] يُعلِّق الأستاذ محمد الطاهر الميساوي في تحقيقه لمقاله الشّيخ الطّاهر: (والبيت من قصيدة لابن الفارض من ثلاثة عشر بيتًا، وقد جاء مختلفًا قليلًا عما ذكره المصنف، ففيه: “للطرف” بدل “للعين”).

‌‌الآثار المرويّة في الشّمائل:

إنّ أحاديثَ الشّمائل المحمّديّة الرّاجعة إلى صفة ذاته كثيرة تنتهي أسانيدها إلى ثلاثةٍ وعشرين من الصّحابة، وهم: عليّ بن أبي طالب، سعد بن أبي وقّاص، عائشة، عبد الله بن عمر، أنس بن مالك، أبو هريرة، جابر بن عبد الله، البراء بن عازب، جابر بن سمرة، أبو أمامة الباهليّ، جبير بن مطعم، أبو الطّفيل، هند بن أبي هالة، عمرو بن أخطب، سلمان الفارسي، أبو سعيد الخدري، عبد الله بن سرجس، أم هاني بنت أبي طالب، أبو رِمْثة[1]، أم هلال أو أم بلال[2]، عبد الله بن عباس، السّائب بن يزيد، أم سعيد الخزاعيّة.

[1] هو بكسر الراء وسكون الميم، اشتهر بكنيته. وقيل اسمه رفاعة، كما قاله الترمذي، وقيل حيان. روى عن النبي – صلى الله عليه وسلم -. وهو من تيم الرباب، كما جزم به الترمذي، وقيل تميمي من بني تميم (تعليق الإمام الطَّاهر بن عاشور).

[2] أم هلال بنت بلال وقيل العكس [أي: أم بلال بنت هلال]، قيل هي من الصحابة، وقيل غير ذلك (تعليق الإمام الطَّاهر بن عاشور).

وقد رأيتُ أن أحذف أسانيدها، وأختصرَ ما وردَ فيها مِمَّا به الحاجةُ ويسهلُ معه التّوصيف، وأرتبُه على مواضِع الجسد، ولا أذكر إلا ما فيه صفةُ ذاتٍ من شأنها أن تُشاهَد، وأترك المكرَّر إلا ما في بعضه بيانٌ أو خلافٌ بالنسبة لبعض آخر، مع المحافظة على الألفاظ الواردة في الآثار. وإذا كان بعضُ ما وصفَهُ به الواصفون يُفَسِّر البعضَ الآخر ذكرتُه بكلمة (أي) التّفسيريّة بدون وضعٍ بين هلالين، وإذا كان التّفسير من كلامي ذكرتُه بين هلالين.

‌‌تفصيل الشّمائل:  

1 – (عموم الجسم والقامة): ليس رسول الله بالطّويل البائن، ولا بالقصير المتردّد، وهو رَبْعة (متوسِّط الطول) إلى الطّول أقرب، رجلٌ بين الرجلين، بعيد ما بين المنكبين، جليل الكَتَد (مجمع الكتفين وهو الكاهِل)، جليل المشاش (رؤوس المناكب)، ضخم العظام، ضخم الكراديس (رؤوس المفاصل)، فخم مفخّم (ليس بنحيف ولا دقيق العظام)، ليس بالمُطَهّم (الكثير اللحم)، ولمَّا كبر بدن. بادِنٌ متماسِك (غير مسترخي اللحم)، أجرد سائل الأطراف (غير قصير اليدين ولا الأصابع)، إذا مشى يتكفَّأ[1]، يتقلَّع[2] كأنما ينحط من صَبَب (مكان منحدر)، أو ينقلع من صخر كأنما يمشي في صعد، أسرع الناس مشية، لونه ليس بالأبيض الأمهق (الشديد البياض) ولا بالآدم (الأسمر)، أسمر اللون إلى البياض، أي: أبيض مُشْرَبٌ بحمرة، أزهر اللون أبيض كأنما صيغ من فضة، أَنوَر ‌المُتَجَرَّدِ (ما تغطيه الثياب).

[1] التكفّؤ): الميل في المشي إلى قُدَّام، كما تتكفأ السفينة في جَرْيها.

[2] (التقلع) : أن يمشي بقوة.

2 – الرأس: عظيم الهامة، رجل الشعر، أي: ليس بالجعد القطط (الجعد: الموصوف بالجعودة، وهي عسر ارتخاء الشعر، والقطط: الشديد الجعود) ولا بالسبط (السبوطة: ارتخاء الشعر بدون التواء)، وقيل: سبط الشعر (فالمعنى أنه إلى السبوطة أقرب)، عظيم الجمة، كان شعره فوق الوفرة ودون الجمة (الوفرة الشعر الواصل إلى شحمة الأذنين والجمة ما تدلَّى على المنكبين واللمة بينهما)، وقيل: كان ذا وفرة، أي: شعره إلى شحمة أذنيه، وقيل: كان ذا لمة (ولعلها أحوال)، إن فرقت عقيقته (شعر الرأس) فرقه وإلا تركه، وكان يسدل شعره، وكان أهل الكتاب يسدلون، وكان المشركون يفرقون، وكان يحب موافقةَ أهل الكتاب، ثم فرق رأسه، وربما ضفره فقد دخل مكة يوم الفتح وله أربع ضفائر، وكان شعره أسود، وفي صُدغيه شيبٌ قليل شعرات.

3 – الوجه: في وجهه تدوير مع استطالة قليلة، لم يكن بالمُكَلْثم (أي المدور الوجه)، واسع الجبين صَلْتُ الجبين سهل الخدّين (لا نتوء فيهما)، ولوجهه بريق كأنَّ الشمس تجري في وجهه.

4 – الأنف: أقْنَى العِرْنِين (أقنى: طويل بدقة، والعرنين: الأنف)، يحسبه من لم يتأمّله أشمّ (الشّمم: استواء أعلى قصبة الأنف، مع ارتفاعٍ يسيرٍ في الأرنبة)، يُرى في أنفه بعض احديداب.

5 – العينان: أكحل العينين أدعجهما (شديد سوادهما)، وقال جابر بن سَمُرة: “إذا نظرتُ إليه قلتُ: أكحلُ العينين، وليس أكحل”[1]، أشكل (الشّكل: حمرةٌ في بياض العين)، مشرب العينين حمرة، وقيل: أحور (شديد بياض أبيض العينين). [وقيل]: أَشْكَلُ (طويل شق العينين)، أهدب الأشفار (طويلها)، في أشفاره وَطَف (كثرة الشعر)، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء (إلى فوق)، جل نظره الملاحظة (حافظًا نظره).

[1] رواه التّرمذيّ في سننه: باب صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحسّنه.

6 – الحاجبان: أزج الحواجب (دقيقهما مع تقوس)، سوابغ في غير قَرْن، وقيل: مقرون الحاجبين (أي يقربان من القرن)، بين حاجبيه عرقٌ يدرُّه الغضب.

7 – الفم: ضليع الفم (واسعه) حسنه، مفلّج الأسنان، إذا تكلَّم رُئِيَ كالنّور يخرج من بين ثناياه، ضحِكُه تبسّم، وربما ضحك حتى بدت نواجذُه.

8 – الأذنان: تام الأذنين.

9 – اللحية والشارب: كثُّ اللحية (كثيرة الشعر)، قد ملأت نحرَه، سوداء اللون، فيها شيب شعرات في مقدمها من تحت الشفة السفلى، وكان يقص شاربه (من جهة الشفة).

10 – العنق: في عنقه سَطَع (بالتّحريك: ارتفاع)، كأنّ عُنُقَه إبريق فضة، إذا التفت التفت جميعًا.

11 – الصدر والبطن: سواء البطن والصدر، موصولٌ ما بين اللُّبة والسرة بشعر يجري كالخط، أشعر أعلى الصدر، ليس في بطنه وصدره شعر غير ذلك، دقيق المَسْرُبة (بضمِّ الراء: الشعر الذي يكون من النحر إلى السرة)، عاري الثديين والبطن (من الشعر)، أجرد بطنه أبيض كالقراطيس المثنية بعضها على بعض.

12 – اليدان: أشعر الذراعين والمنكبين، طويل الزندين، عَبْلُ العضدين (ضخمهما)، شَثْنُ الكفّين (غليظٌ فخمٌ)، رحب الراحة، ضخم الكراديس (رؤوس العظام)، سائلُ الأطراف، ليِّنُ الكفَّين كالحرير. ورُوِيَ أن سبّابتيه أطول من الوُسْطَيَينْ وهو غلط، وإنما ذكر ذلك في سبابتي رجليه، كما سيأتي.

13 – الظهر: بين كتفيه في ظهره خاتم النبوة، وهو غُدة، أي: بَضْعة ناشزة حمراء مثل زِرِّ الحَجَلة (الزِّر -بزاي مكسورة ثم راء-: قطعة من ثوبٍ يُحشى بصوف أو نحوه وتخاط، فتكون كشكل البيضة يشد بها شقة أثواب، الحَجَلة -بفتحتين-: وهي البيت كالقُبّة بأن يُدْخَل الزّر في عروة تقابله فتقع الشّقة على الشّقة).

14 – الرِّجلان: شَثْنُ القدمين، خَمصان الأخمصين (ضامر وسط القدمين)، مسيح القدمين أملسهما (لا نتوء فيهما ولا شقوق)، قليل لحم العقب، رحب القدمين، أي: ضخمهما، وكان في ساقيه حُموشة (أي: دقة) ولساقيه بريق. وروى أحمد بن حنبل والبيهقي حديث أن سبابتي ساقيه أطولُ من الوُسْطَيَيْن.[1] لكن في سنده سلمة بن حفص السعدي كان يضع الحديث، والصحيح أن ذلك لا أصلَ له، وأن خلق أعضاء رسول الله أحسن خلقة صلَّى الله عليه وسلم.

[1] رواه أحمد في مسنده عن جابر بن سمُرة: (كَانَتْ أُصْبُعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَظَاهِرَةً)، وقد ضعَّف محقِّق الكتاب الشيخ شعيب الأرنؤوط ومساعدوه، والحديث عند البيهقي بالإسناد نفسه، لكن بلفظ: (كان إصبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خنصرة من رجله متظاهرة)، وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد ضعَّفها كذلك محقِّق الكتاب الشيخ شعيب الأرنؤوط ومساعدوه: قالت ميمونة بنت كَرْدَم: (فَمَا نَسِيتُ فِيمَا نَسِيتُ ‌طُولَ ‌أُصْبُعِ ‌قَدَمِهِ ‌السَّبَّابَةِ عَلَى سَائِرِ أَصَابِعِهِ).

‌‌تفصيل الشّمائل:

كان بعضُ الصّحابة وبعض التّابعين يُشبِهُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يَعُدْ بعدَ التَّابعين أحدٌ يشبهه. وسببُ ذلك أنَّ أصحابَ رسولِ الله الذين كانوا يرون شبيهَه في بعض الذّوات قد انقرضوا في عصر التابعين، فلم يبق مَنْ تلوح له ملامحُ ذات رسول الله في بعض الذين يُشبِهونَه؛ لأنَّ الشَّبَهَ يحصلُ من مجموع صفاتٍ لا يتفطَّنُ لها إلا مَنْ يعرف المشبَّهَ به الموصوفَ بها. وقد صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: إنَّ إبراهيمَ الخليل عليه السَّلام هو شبيهُه من الأنبياء المتقدِّمين.[1]

[1] روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: «وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، ‌وَأَنَا ‌أَشْبَهُ ‌وَلَدِهِ ‌بِهِ».

وأمَّا الذين يُشبِهونَ رسولَ الله من أمّته فتسعةُ عشر أو عشرون وهم:

ابنته فاطمة، وابنه إبراهيم، وجعفر بن أبي طالب -وقال له رسول الله: “أشبهتَ خَلْقِي وخُلُقي”[1]-، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب أخو رسول الله من الرّضاعة، وعثمان بن عفّان، وقُثَم بن العباس، والحسن بن عليّ يشبه رسول الله في نصفه الأعلى، كان أبو بكر يلاطفه وهو صغير يقول له: “بأَبِي شبيهٌ بالنّبيّ، ليس شبيه بعليّ”[2]، والحسين يُشبِهُه في نصفه الأسفل. وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعون بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن عقيل بن أبي طالب، ومسلم بن عقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن الحارث بن نوفل الملقب بَبَّة، ومسلم بن مُعَتِّب ابن أبي لهب، وعجير بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، وكابِس بن ربيعة، والسَّائب بن عبيد، وعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي، وعبد الله بن أبي طلحة الخولاني، وكان كَفُّ عليّ بن أبي طالب يُشبَّهُ بِكَفِّ رسول الله.

[1] رواه البخاري في صحيحه في: (كتاب الصّلح: باب كيف يكتب هذا ما صالح فلاف بن فلان …) و(كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه)، و(كتاب المغازي: باب عمرة القضاء).

[2] رواه البخاري في صحيحه في: (كتاب المناقب: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلّم)، و(كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما).

فهؤلاء الذين بلغ بهم استقرائي لِمَنْ ذُكر أنه يُشبه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّ مشابهتهم إياه متفاوتة، وكلها لا تبلغ تمامَ شبهه. وهذا معنى قول عليٍّ رضي الله عنه في حديث صفته: “يقول ناعتُه: لَمْ أرَ قبلَه ولا بعدَه مثلَه”[1]، وعليه يُحمَلُ قولُ البوصيري رحمه الله:

[1] القائل هو عليُّ بن أبي طالب، وقد روى ذلك الترمذي في سننه في أبواب المناقب وقال: حديث حسن صحيح.

مُنَزَّهٌ عَنْ شريكٍ فِي مَحَاسِنِهِ … فَجوْهَرُ الْحُسْنِ فِيهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ[1]

[1] من قصيدته المعروفة: البردة.

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى