
قراءة جديدة في حادثة الهجرة إلى الحبشة
“بحث مقدَّم لمؤتمر (فقه السيرة النبوية وإسقاطاتها المعاصرة) الذي أقامته حملة (وتبقى القائد والقدوة) في بيروت 4/4/1444هـ الموافق 29/10/2022م”
بقلم
الأستاذ الدكتور ماجد الدرويش
أستاذ الحديث النبوي الشريف وعلومه في جامعة الجنان
وأستاذ التاريخ الوسيط في الجامعة اللبنانية – الفرع الثالث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فإنه من المعلوم من الدين ضرورة أن الإسلام جاء لصالح البشرية وأمنها ورخائها وتنظيم أمورها. لذلك قال الله تعالى: ﴿فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى﴾.
ومن هدى الإسلام السياسة الشرعية التي تهتم بما يصلح حال الناس في الحال والمآل، وتقف في وجه كل ما من شأنه تكدير الحياة العامة والمصالح المعتبرة للناس.
إلا ان المشاهد أن ما يقع اليوم من مشكلات في العالم بعامة، وبلادنا الإسلامية بخاصة، من مشكلات سياسية وأمنية يشهد بما لا يقبل الشك بأن الاعتبارات الشرعية في السياسات العامة غير مراعاة، بل لعله لا يقام لها وزن، الأمر الذي حول بلادنا إلى ساحة تحارب وتقاتل على المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة، ورحم الله أمير المؤمنين في الحديث سفيان بن سعيد الثوري، القائل: «ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة: تجد الرجل يزهد في المأكل والمشرب والملبس والمال، فإذا نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى».
وأكثر ما يظهر هذا التناحر اليوم في الصراعات الداخلية، وهو ما يعرف اليوم بالحروب الأهلية، التي تقلب حياة الناس جحيما. وكثير من هذه الصراعات يتذرع لها بأدلة وتأويلات يرى أصحابها أنها شرعية. وهو ما يسمح لنا أن نطرح هذا التساؤل: هل يبيح الشرح التقاتل بين أبناء المجتمع الواحد بسبب آرائهم الخاصة؟ وهل ما يتذرعون به من أمور شرعية هي كذلك فعلا؟
هذا ما سوف نحاول الإجابة عنه في هذه الورقة. مبتدءًا بتعريف الحروب الأهلية، وناظرا هل حصل ما يمكن تسميته بالحرب الأهلية في الجزيرة العربية؟ وهل يوجد في السيرة النبوية ما يمكن أن يستدل به على الموقف الشرعي من هذه الحروب؟
تعريف الحرب الأهلية
تعَرَّفُ الحرب الأهلية بأنها «الحرب الداخلية في بلد ما التي يكون أطرافها جماعات مختلفة من السكان. كل فرد فيها يرى في عدوه وفي من يريد أن يبقى على الحياد خائنا لا يمكن التعايش معه ولا العمل معه في نفس التقسيم الترابي».
وقد عرف معجم اللغة العربية المعاصرة الحرب الأهلية: بأنها «صراع مسلح يقع بين أبناء الوطن الواحد».
أما القاموس السياسي فيعرفها بأنها: «صراع مسلح ينشب داخل إقليم الدولة يتميز بأن كلا الطرفين المتنازعين يفرض سلطاته على جزء معين من إقليم الدولة ويمارس فيه السلطات التي تمارسها الحكومات الشرعية كجباية الضرائب والتجنيد والتقاضي… إلخ».
ومنشأ هذا المصطلح العبارة اللاتينية bellum civile)) الذي كان يُستخدم للإشارة إلى الحروب الأهلية المختلفة للجمهورية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد. ويذكر الذين تناولوا موضوع الحرب الأهلية في العصر الحديث بأن معظم هذه الحروب تنطوي على تدخل قوى خارجية.
ويختلف الأكاديميون حول درجة حدة الاضطراب المدني الذي يُعتبر عندها حرب أهلية. فيرى البعض أن الحرب الأهلية على أنها حرب تسببت بسقوط أكثر من 1000 ضحية في السنة الواحدة، بينما يحدد آخرون أيضًا وجوب وقوع 100 ضحية على الأقل لدى كل جانب.
إنطلاقا من هذه المحددات هل وقعت في الجزيرة العربية ما يمكن تسميته بالحروب الأهلية؟ وإن وجدت فما موقف الشرع منها؟
بالنسبة للسؤال الأول فمن المتيقن أن الجزيرة العربية شهدت كثيرا مما يمكن تسميته بالحروب الأهلية، من مثل: حرب الفُجار، وحرب البسوس، وداحس والغبراء، وبُعاث، فكلها كانت حروبا دامية في الجزيرة العربية بين القبائل العربية التي ترجع إلى أصل واحد والتي تعيش في مكان واحد، من مثل الأوس والخرج، وتسببت بهلاك خيرة رجال وشباب الطرفين، حتى نفرت من هذه الحروب النفوس، وكانت هذه النفرة أحد أهم أسباب قبول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل يثرب في بيعة العقبة الأولى، فقد ذكر الداعية السيد أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في السيرة النبوية مجموعة أسباب ساهمت في تهيؤ الأنصار للإسلام، وذكر منها: «أنّهما قد أنهكتهما الحروب الداخلية، وما يوم بعاث ببعيد، وقد اكتووا بنارها، وذاقوا مرارتها، وعافوها، ونشأت فيهم رغبة في اجتماع الكلمة، وانتظام الشّمل، والتفادي من الحروب، وذلك ما عبّروا عنه بقولهم: إنّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فإن يجمعهم الله بك، فلا رجل أعزّ منك. قالت عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يوما قدمه الله تعالى لرسوله» .
وبعاث آخر معركة حصلت بين أهل يثرب من الأوس والخزرج، وكانت قبل البعثة بخمس سنين. وقد أنهكت هذه الحرب الأهلية اليثربيين، لذلك التقى العقلاء بعدها على ضرورة تجنب الصراع فاجتمعوا على قيادة عبد الله بن أبي بن أبي سلول والتي سقطت بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن من أهم أسباب اعتناق الأنصار للإسلام هو تجنب الحروب الأهلية، فهل يا ترى جاء الإسلام ليعيد تفجير الحروب الأهلية بين أبناء المجتمع الواحد تحت مسميات الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هذا ما سوف نسعى إلى معالجته على هدي ما جاء من مواقف نبوية شريفة في السيرة النبوية.
السيرة النبوية
السيرة النبوية العطرة هي التطبيق العملي للإسلام، وهي الأسوة الحسنة التي أمرنا بالاقتداء بها، كما قال عز وجل ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾، من هنا كان من الواجب على كل فرد في المجتمع مهما كان موقعه النظر في سيرته عليه الصلاة والسلام ليستلهم منها كيفية تطبيق الأحكام المتعلقة بمجاله.
ومن المجالات المهمة التي ينبغي النظر فيها بدقة : المجال السياسي، وهنا ينبغي الاعتراف بأننا فقراء في القراءات السياسية الجادة والمتجردة لحوادث السيرة النبوية، حيث طغت القراءات الإسقاطية على الأفكار المسبقة على القراءات الكلية ضمن سياقات الحوادث التاريخية، وهو ما أطلق عليه شيخنا العلامة الموسوعي الدكتور معتصم بالله البغدادي حفظه الله تعالى: «القراءة على طريقة الكلمات المتقاطعة». بينما المطلوب استقراء متجرد ومنطقي ومترابط بين الأحداث ومسبباتها ونتائجها، والغوص في استقرائها لاستنباط العلل والحِكم والأسباب والموانع، وكل ما له علاقة بالأحكام الوضعية، لأنها هي الأساس في اتخاذ المواقف والقرارات السياسية.
فالحكم الوضعي كما عرفه الأصوليون هو «خطاب الله المتعلق بجعل الشيء سببًا لشيء أو شرطًا له أو مانعًا منه أو كون الفعل صحيحًا أو باطلا، أو عبادةً، أو قضاءً، أو أداءً،، أو عزيمةً، أو رخصةً، وغير ذلك، كما قال شيخنا العلامة الدكتور محمود عبود هرموش رحمه الله تعالى في كتابه غاية المأمول.
وقال: «أما وجه تسميته بخطاب الوضع فلأن الشارع إنما قصد منه أن يكون علامة لشيء آخر بأن يكون سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو غير ذلك، فهو إذا موضوع وضعه الشارع معرفًا لشيء آخر».
من هنا أريد الحديث في حادثة الهجرة إلى الحبشة، كونها حدث مهم ينبغي الاستفادة منه في مواجهة الأحداث التي يتعرض لها المسلمون اليوم.
فالبعض يرى أن الحياة الإسلامية توقفت مع سقوط نظام الخلافة بعيد الحرب العالمية الأولى، ويرون أن الواجب العمل على استئناف هذه الحياة، فينظرون إلى أحداث السيرة ويستنبطون منها الوسائل معتمدين على التقسيم الشهير لحوادث السيرة بين عهدين: مكي ومدني، ثم ينظرون في خصائص كل فترة، ويحاولون القياس عليها مستلهمين منها طريقة البدايات الأولى للإسلام، ثم يترسمونها في محاولة لاستئناف هذه الحياة. والأمثلة اليوم على هذه الأساليب الدعوية أظهر من الكلام عنها.
ومع تحفظي على ادعاء توقف الحياة الإسلامية التي لا أرى أنها توقفت أبدا، وإنما ضعفت في مجالات ينبغي إصلاحها، إلا أننا نلحظ تعدد الرؤى في العمل لاستئناف هذه الحياة، كما نلحظ انقساما بيِّنًا حول مفاهيم هاتين المرحلتين عند العاملين، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أنَّ القراءات اجتهادية وليست قطعية، وبالتالي ليست ملزِمة لمن لا يرى هذه الرؤية، ولا يمكن لمن تبنى واحدة من هذه الرؤى أن يتهم المخالفين له، ولو كانت هذه المفاهيم قطعية لما حصل حولها هذا الخلاف.
من هنا كانت نظرتي في الهجرة إلى الحبشة في قراءة مغايرة لما ألفناه في كتب شراح السيرة النبوية الشريفة، منطلقا من إطلاق تسميات جديدة على المرحلتين المكية والمدنية وفق واقع الحال الذي صبغ هاتين المرحلتين: فالمرحلة المكية كانت مرحلة استضعاف وبناء، والمرحلة المدنية كانت مرحلة قوة ومنعة وفرض الاحترام والحق في الوجود، لذلك أطلقت على المرحلة المكية مرحلة الاستضعاف، وعلى المرحلة المدنية مرحلة القوة والظهور، وهذه الأوصاف لا تبارح الأمة في كل تاريخها فهي تتقلب بين حالات ضعف وحالات قوة، وبالتالي من هنا يمكننا قراءة الأحداث قراءة منطقية واقعية بعيدة عن الاسقاطات المجتزأة.
لماذا كانت الهجرة إلى الحبشة؟
يقول العلامة السيد أبو الحسن الندْوي رحمه الله تعالى في كتابه (السيرة النبوية):
«ولمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكا، لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتّى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه».
وهو بهذا يلخص ما جاء في جل كتب السيرة حول أسباب الهجرة إلى الحبشة، وأنها كانت للتخفيف على الصحابة من البلاء، وعجز النبي صلى الله عليه وسلم عن التخفيف عنهم، فقد قرأنا كيف مرَّ عليه الصلاة والسلام على آل ياسر وهم يعذبون أشد العذاب، فقال لهم: (صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة). فَفُسِّرَ هذا بأنه عجز عن التخفيف.
والذي أراه أن هذه القراءة مجتزأة، لأنها لم تقرأ من خلال آيات القرآن الكريم، وإنما اقتصرت على النظرة إلى الحدث عند وقوعه فقط، وفي هذا يعجبني قول المؤرخ الكبير أسد رستم القائل: «إنك لن تتمكن من فهم التاريخ الإسلامي إذا لم تنظر إليه من خلال القرآن الكريم». وهذا ما سوف أتبعه في هذه القراءة لأثبت أن من أهم الأسباب هو الحؤول دون تفجر الأوضاع بين أهل مكة بسبب العصبية المستفحلة فيهم، وهو ما يعرف اليوم «بالحرب الأهلية»، الأمر الذي سوف يكون له أسوأ الآثار على الدعوة الجديدة ومستقبلها.
ولبيان ذلك سوف أنظر في حالتين: واحدة في مرحلة الاستضعاف في مكة، وأخرى في مرحلة القوة والمنعة في المدينة. لنتأكد من أن هذا الموقف مطرد في كل حالات المجتمع دون نظر إلى ضعف وقوة.
في مكة
الإنطلاقة ستكون من قول ربّنا سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾.
هذه الآية من سورة النساء، رقم (77)، وهي سورة مدنيّة، وهذا يعني أنّها نزلت بعد الهجرة، على التعريف المختار للقرآن المدني، وبالتحديد في المدينة كما قال حبر الأمّة عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما، وقيل في سبب نزولها ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن ابن عبّاس: أنّ عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكّة، فقالوا: «يا نبيّ الله، كنّا في عزّة ونحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة»؟، قال – صلّى الله عليه وسلّم-: (إنّي أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم)، فلمّا حوّله الله إلى المدينة، أمره بالقتال فكفّوا، فأنزل الله تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ …﴾. الآية.
ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره، وقال: ورواه النَّسائي والحاكم وابن مَرْدُوْيَه، من قول السُدِّيّ: لم يكن عليهم – أي في مكّة – إلاّ الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال، فلمّا فرض عليهم القتال ﴿ِإذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ وهو الموت.اهـ.
هذا ما أورده الحافظ ابن كثير من أسباب نزول، وهناك سبب آخر: قيل إنها نزلت في يهود، وهو أمر مستبعد لأمور منها:
- لقولـه تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾. ومعلوم أن يهود ليس لهم حظّ في الآخرة، وهذا خطاب وُجِّه إلى مؤمنين يرجون الآخرة.
- من منهج الحافظ ابن كثير في تفسيره أنّه يقدّم ابتداءً أصحّ الأقوال فيما تعدّدت فيه التفسيرات، وقد قال رحمه الله في تفسير هذه الآية ما يأتي : «كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكّة مأمورين بالصلاة والزكاة، وإن لم تكن ذات النُّصُب – أي الأنصبة المقدّرة –، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أُمروا بالقتال ليشتـفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة، منها: قلّة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها: كونهم كانوا في بلدهم، وهو بلد حرام، أشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً كما يُقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلاّ بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ومع هذا، لمّا أُمروا بما كانوا يودّونه، جزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفًا شديدًا ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ أي لولا أخّرت فرضه إلى مدّة أخرى، فإنّ فيه سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء».
هذا الكلام التحليلي لقراءة النص مقرونًا بزمنه وسبب نزوله مهمّ جدًا لأنّه يعطينا مفتاحًا مهمًّا للبحث عن العلل التي تصلح أصلاً يُقاس عليه في كلّ زمان ومكان.
والحقيقة أنّ هذا أصلٌ من أصول التفسير للنصّ القرآني أو النصّ النبويّ، وهو ما لفت إلى مخاطر الجهل به سيدُنا عبد الله بن عبّاس، عندما استفسره أمير المؤمنين الملهم الفاروق عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، عن أسباب افتراق هذه الأمّة، والحال أنّ كتابها واحد ونبيّها واحد؟!!. فقال ترجمان القرآن رضي الله عنه: «يا أمير المؤمنين إن القرآن نزل فينا وكُنّا نعلم فيم نزل، وسيأتي يوم على الناس يقرءون القرآن ولا يعلمون فيم نزل، فيكون لكلّ واحد منهم رأي، فإن كان ذلك اختلفوا، وإذا اختلفوا اقتتلوا». على ما جاء في سنن سعيد بن منصور.
فإذا عُدْنا إلى تحليل كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله، نستطيع أن نخرج بنتائج منها:
أنّ بعض الصحابة – وليس كلَّهم – عندما طلبوا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الإذن بالقتال في مكّة كان الدافع الثأر لأنفسهم من طغيان قريش عليهم. وهذا يتماشى مع طبيعة الحياة القبلية التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام، وهم أصلاً حديثو عهد بإسلام، وما زالت عندهم بقايا ممّا شبّوا عليه، ويُظْهِر هذا المعنى، قول عبد الرحمن بن عوْف رضي الله عنه ومن رافقه من أصحابه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث آنف الذكر : «كنّا في عزّة ونحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة) ؟!!.
إنّ نفس العربي تأبى الذلّة والمهانة، بل كانتِ الحرب لتنشب بين القبائل لأقلّ من ذلك، وهذا ما دفع الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى القول : «وكانوا يتحرقون ويودون لو أُمروا بالقتال ليشتـفوا من أعدائهم». غير أن الله تعالى يريد منهم أن يتخلّصوا نهائيًا من هذه النزعة القبليّة، ويرتقوا بتصرّفاتهم إلى مستوى العالميّة التي تنظر إلى الأمر نظرة شاملة لا مجتزأة. وهذا يعني أن الصبر في فترة كهذه هو الذي يحقّق النصر والظفر، وينقل المسلمين من حالة الضيق إلى حالة السعة والفرج. والله أعلم. مع العلم أنّ القوم فيهم أمثال: عمر بن الخطّاب، وما أدراكم ما عمر. وحمزة بن عبد المطّلب – صائد الأسود – والزبير بن العوام، أول من شهر سيفًا في سبيل الله، وعليّ بن أبي طالب، فتى قريش. وفيهم من أمثال أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفّان، وعبد الرحمن ابن عوف، من كبار تجّار مكّة وأسيادها المقدّمين.
فأمثال هؤلاء ليس من السهل أن يسكتوا على طغيان من قد لا يدانوهم شرفًا ونسبًا، وإن ساووهم ولكن حتمًا لا يفوقونهم. فلا بدّ أن يكون السكوت إذن لأمر أعظم وأكبر من مجرّد الثأر للنفس. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن الجهاد أمرٌ خطير شأنه، مرير قراره، فلا بدّ أن يكون الدافع إلى زهق الأنفس والأموال أمرًا يفوق مجرّد الاعتبارات الشخصيّة ليتخطّاها إلى اعتبارات دعويّة ترتبط بالهدف الأساس ألا وهو عبادة الله تعالى.
نفهم من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله أنّه عندما تغيّر الواقع المعاش من تضييق وضغط في مكّة، إلى سعة ورغدٍ في العيش في المدينة، تغيّرت نظرة البعض إلى القتال ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾. وهذا – والله أعلم – من أعظم الأسباب التي قد تكون وراء عدم الإذن في القتال بمكّة. لأنّ النفس مجبولة على ردّ الفعل والثأر للذات ممّن ظلمها، ولذلك وُجد الاندفاع للقتال في مكّة في ظلّ ظروف القهر والضغط. وهذا انصياع وراء إرادة النفس أكثر منه اندفاعًا وراء حكم الله سبحانه. أما في المدينة حيث بدلت الأرض غير الأرض وعوِّضت الدور والأموال وصار للمهاجرين موطئ قدم وتجارة وارتاحت النفوس من أجواء الضغط والتضييق، وتغيّرت وسائل الصراع، وتمايز المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون عن غيره، مالت النفس إلى المحافظة على المكتسبات الجديدة، فنرى الحافظ ابن كثير يغوص في أعماق نفوس المخاطبين في تلك الآيات ويقول: «لم يؤمر – أي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم – بالجهاد إلاّ بالمدينة، لما صارت لهم – أي للمهاجرين – دار ومنعة وأنصار، ومع هذا لمّا أُمروا بما كانوا يودّونه، جزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفًا شديدًا». وهذا يعطينا فكرة واضحة أنّه قد يعلن أحدٌ ما حالة الجهاد في سبيل الله تعالى، بينما ينطلق مدفوعًا بحب الثأر من النظام الذي طغى عليه وظلمه وأخذ ماله بغير حق. ولعلّ هذا المنطلق لا يصلح دافعًا للجهاد، وإنّما الذي يصلح أن يكون منطلقًا هو مثل قولـه تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾. فالجهاد يكون من أجل استخلاص المستضعفين من المؤمنين من أيدي الظالمين، لا من أجل الثأر للنفس. وهذا يحتاج إلى أركان، أهمها: الأرض التي تنطلق منها لتجميع هؤلاء المستضعفين الذين استخلصوا من أيدي الظالمين. والأهم من ذلك القدرة عليه. ونلحظ هذا في قول الحافظ ابن كثير رحمه الله مبررًا عدم الإذن بالقتال في مكّة بأنّه لأسباب كثيرة، منها: «قِلَّةُ عددهم بالنسبة إلى عدد عدوّهم، ومنها: كونهم كانوا في بلدهم، وهو بلد حرام، أشرف بقاع الأرض».
وما لا شكّ فيه أنّ مكّة أشرف بقاع الأرض، وأنّها بلد حرام، ولكنّ حرمة المؤمن أشدّ عند الله تعالى حتى من الكعبة نفسها، ولذلك أحلّها الله تعالى لنبيّه عام الفتح، وقد وجدنا في القرآن الكريم ما يثبت أن حرمة المؤمن أعظم من حرمة الزمان والمكان، في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ؟ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ…﴾.الآية. إذن يبقى عندنا أن السبب الأساس أنهم كانوا في بلدهم، وأنّه لو أُذن لهم بالقتال لدارت حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، والقوم مدفوعون بالعصبية التي لم تؤثر فيها ابتداءً العقيدة الجديدة تأثيرًا كبيرًا.
فهؤلاء هم بنو هاشم قومُ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتخلّوا عنه وقت الحصار على كفرهم وشركهم، وهؤلاء بنو تيم، اجتمعوا فوق رأس أبي بكر الصدّيق عندما أوذي بالضرب حتّى كادت روحه تزهق، وهم يتوعدون قريشًا إن مات صاحبهم، وهذا العبّاس عمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخوّف قريشًا من بطشة بني غفار عندما تعرّضوا بالضرب لأبي ذر رضي الله عنه.
فهذه كلها أسباب، والله أعلم، قد تشعل حربًا أهلية تطيش معها العقول، وتذهب برجالات الدعوة، وتنتهي هذه العقيدة في مهدها. فما الذي سيحصّله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كلّ ذلك؟!!. بل ما الذي سيحصّله الدين الجديد؟ بينما وجدنا أن سياسة الصبر وضبط النفس قد آتت ثمارها.
ويؤكد هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة يوم رأى الضغط يشتد على أصحابه، خوفا من ردات فعل غير محسوبة تخلط الأمور، وخوفا من أن يؤدي الاحتكاك اليومي إلى حرب قبلية جديدة لا مصلحة للدعوة فيها على الاطلاق.
ونحن لو قرأنا ما ذكره الأخباريون من تعليل للهجرة إلى الحبشة نجدهم يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر الضعفاء… ولو أننا راجعنا أسماء الذين هاجروا لوجدناهم من أشراف قريش، من مثل: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم.. بينما الضعفاء، من مثل: صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، وغيرهم لم يتركوا مكة. ومراجعة سريعة لأسماء المهاجرين وقبائلهم في سيرة ابن هشام نعلم من خلالها ان المهاجرين من أشراف قريش وقبائلها وليسوا من الضعفاء.
وهذا يعني عندي أمرا مهما، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يفصل بين أكابر صحابته وبين الضغط عليهم من قبل قريش خوفا من اندلاع حرب أهلية بين القبائل، لذلك أرسلهم إلى أرض (لا يظلم فيها أحد). والله أعلم.
في المدينة المنورة
بل نكاد نلمح أن الحرص على عدم إثارة حرب أهلية هي سمة أساسية، فقد أخرج الإمام أبو داود في سننه في كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في خبر النّضير: أنّ كفّار قريش كتبوا إلى ابن أُبَيٍّ بن أبي سلول ومَنْ كان معه يعبُد الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنّا نُقسم بالله لتُقاتلُنَّه أو لتُخرِجَنَّه أو لنسيرنّ إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم. فلمّا بلغ ذلك عبد الله بن أُبيّ ومن كان معه من عبدة الأوثان، أجمعوا لقتال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا بلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَقِيَهُم، فقال: (لقد بلغ وعيدُ قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكُم بأكثر ممّا تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم!) فلمّا سمعوا ذلك من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تفرّقوا…اهـ.
فليُنظر إلى محاولة قريش إثارة حرب أهلية بين أهل المدينة، لأنه حتمًا لن يَتْرُك الأنصارُ من أهل المدينة ابنَ أُبي يطرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين بايعوه في العقبة الثانية على منعه في بلدهم مما يمنعون منه أهليهم وأولادهم، وهذا الذي أفهمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ابنَ أُبَيّ قبل أن يظهر نفاقه، وكان المخاطبون الأساسيون من معه من أهل المدينة، فقال لهم: (تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم) وأن ذلك مكيدةٌ كادتكم بها قريش، لتوقع بين أهل البلد الواحد، وترتاح هي من عناء المواجهة المباشرة، نلمح ذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ما كانت تكيدكم بأكثر ممّا تريدون أن تكيدوا به أنفسكم). ثم ليُنظر إلى حكمة هذا المنافق ابن أبي سلول كيف امتنع عن القتال حتى لا يُدخل المدينة بحرب دفعته إليها قريش عدوة الإسلام الأولى.
فيا ليت حكامنا يعقلون، ولا يكون هذا المنافق أوعى منهم، ويا ليت شباب المسلمين يفقهون ولا يفتحون مجالاً (لقريش) لتُشعل حربًا أهلية تهلك فيها القوة التي تشكل فيها خطرًا حقيقيًا عليها.
إنّ الوعي والحكمة وحسن القراءة للسيرة النبويّة في ضوء ما تنزّل من آيات القرآن الكريم، كفيل بأن يوجد عند المسلمين فهمًا شرعيًا مميزًا وطاعة لله تعالى قبل كلّ شيء يتولّد عنها نصر مبين بإذن الله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ﴾.
وإنّ التسرّع والتهوّر وخوض غمار حروب تُجَرُّ إليها جرًّا، لن يجلب على الأمّة إلاّ الخسران، وبخاصة عندما تكون غير مستعدة لذلك، وهذا ما أشار إليه راوي الحديث بقوله: (ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر). فهذا يعني أنّه لم يمضِ على الهجرة إلاّ الزمن القليل، وإذا كانت معركة بدر قد حصلت، والمسلمون غير مستعدّين لها، فكيف يكون حالهم قبلها؟!…
فإذًا لا بدّ من تفويت الفرص على أعداء الدعوة من أن يستدرجوها إلى مقتلها، وكان الخطاب الوطني والقبليّ هو المفتاح الذي استخدمه الرسول صلّى الله عليه وسلّم لنزع الفتيل. (تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم).
وهناك مواقف أخرى نلمح فيها الحرص على عدم الاقتتال بين أبناء البلد الواحد، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) ، ومن مثل مدحه لسبطه الحسن رضي الله عنه بقوله: (ابني هذا سيد، ولعل الله تعالى يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين)، وغيرها كثير.
أدلة مساعدة
ونحن لو نظرنا في كتاب الله تعالى، وعلى الخصوص في قصص الأنبياء والمرسلين يمكننا أن نلمح هذا الأمر بشكل جلي، ذلك أن كل نبي أرسله الله تعالى إلى قومه خاصة، وبالتالي الصراع مع قومه لو تحول إلى حرب سيكون ولا شك حربا أهلية، لكننا نرى أنه ما من نبي خاض صراعا مسلحا مع قومه، وإنما كان الهلاك الإلهي، والعقاب العام هو مصير المكذبين.
وبمكننا أن نلمح ذلك في خطاب سيدنا شعيب عليه السلام مع قومه عندما قال لهم: ﴿وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾، إلا أن قومه تمادوا في العداوة إلى حد الإلغاء، كما أخبر الله تعالى عنهم: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ ، فنلحظ أن نبي الله شعيب عليه السلام لم ينف حقهم بالوجود مع معتقدهم الفاسد، بينما هم لم يجدوا له ولأتباعه حقا في بلدهم مع إيمانهم، وعقولهم لا تتحمل وجود مجموعتين مختلفتين عقديا في بلد واحد. وهذا من أهم بواعث الحرب الأهلية، لكن نبي الله شعيب لم ينجر إلى ما أرادوه، حتى أصابتهم سنة الله تعالى في إهلاك المتجبرين أمثالهم.
أما مع بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، نالت المخالفين رحمته العامة كما في قوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾، فتجلت رحمته صلى الله عليه وسلم في إمهال الكافرين والمعاندين إلى يوم القيامة، ولكنه كما ظهر معنا سابقا لم يحصل أن خاض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حربا داخلية (أهلية) وإنما كانت حروبه خارجية لأنها عند الاستقراء لم تكن مع أهل البلد الواحد.
أكتفي بما ذكر لأؤكد على أن الحروب الداخلية في نظر الشريعة الإسلامية مما لا يحمد، ومما ينبغي أن يُغلق في وجهه الباب، وأهم أسباب منعها إقامة العدل بين أبناء المجتمع الواحد حتى لا يكون ذلك سببا لاستغلاله من قبل المتربصين.
ومنع الحرب الأهلية لا يعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن من أهم صفات المؤمنين الصادقين هو القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي لا يعني بشكل من الأشكال شن حرب على السلطة القابضة على الحكم من جهة، أو على المخالفين لنا في التوجه العام.
ولا يمكن التذرع بأن حكامنا اليوم بعيدون عن أحكام الشرع، فهذا ليس بالجديد، فقد جاء في فترات سابقة سواء زمن الأمويين أو العباسيين ومن بعدهم حكام كانوا ظلمة بل ومنهم من كانوا فجرة وقتلة وسفاكي دماء، وبعد صدامات وصراعات متعددة ، آخرها وقعة الجماجم بين جيش الحجاج بن يوسف الثقفي وجيش عبد الرحمن بن الأشعث، ووقوف بعض العلماء مع ابن الأشعث للتخلص من ظلم الحجاج، وجدنا أن المر انعكس سلبا على المجتمع أكثر من ذي قبل، ولكثرة الصراعات التي وقعت على السلطة اتفقت كلمة العلماء المعتبرين على جواز إمامة المغلوب طالما أنه يحفظ بشكل عام شعائر الإسلامية الأساسية. فالحكم لا يطلب لذاته وإنما للقيام بمصالح الناس وتطبيق الأحكام. وهو ما فهمناه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبلا عن أمراء سوء يؤخرون الصلاة عن وقتها، ويأكلون حقوق الناس، ويفعلون، ويفعلون، فلما قال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا ننابذهم بالسيف؟ قال: (لا، ما أقاموا الصلاة).
وهذا لا يعني أبدا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا أمر لا علاقة له بالصراع بين أهل البلد الواحد الذي يسمى اليوم بالحرب الأهلية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.