
“بحث مقدَّم لمؤتمر فقه السيرة النبوية وإسقاطاتها المعاصرة الذي أقامته حملة (وتبقى القائد والقدوة) في بيروت 4/4/1444هـ الموافق 29/10/2022م”
بقلم: الدكتور محمد فؤاد ضاهر
باحث أكاديمي وأستاذ جامعي مشارك في جامعة الجنان وكلية الشريعة بجامعة بيروت الإسلامية
هذا بحث بعنوان: “دار الأرقم بن أبي الأرقم وأثرُها في بناء الأُمَّة وقيام الدَّولة”، ينبِّئ عن حدث مهمٍّ في السِّيرة النَّبويَّة الخالدة شكَّل موئلاً للإسلام، وكان على إيجازه محطَّة فريدة وتأريخًا نوعيًّا وحدًّا فاصلاً. استطاع رسول الله من داخل هاته الدَّار أن يبني القادة ويدير المجتمع ويؤسِّس للدَّولة.
دفعني إلى الكتابة فيه الرَّغبة الملحَّة في الكشف عن ملابساته ومتعلِّقاته، والإجابة المباشرة عمَّا يراودني من إشكاليَّات قادت إلى التَّوصُّل إلى حقائق موضوعيَّة، فضلاً عن تزويد القارئ النَّهم بما يشبه المحرِّك المحفِّز في أن يقرأ ما بين أحداث السِّيرة ومتوقَّفاتها فلا يقف على وقائعها مجرَّدةً.
سرت في ضوء المنهج التَّاريخيِّ- التَّحليليِّ لجهة استدعاء الأخبار من مظانِّها الرَّئيسة واعتماد أقربها وأمثلها، والتَّبصُّر في أبعادها ودراسة حيثيَّاتها. ونظمته في مقدِّمة وتمهيد وثلاثة مباحث، وخلصت إلى نتائج أهمُّها: إنَّ المراحل التي مرَّت بها الدَّعوة الإسلاميَّة في مكَّة والمدينة تقدير إلهيٌّ وليست ملزِمة للقياس عليها إلاَّ بالحدِّ الذي تتقاطع معه. وتنزَّل الوحيُ على النَّبيِّ r في العهد المكِّيِّ بما تقتضيه كلُّ مرحلة على حدة. وشكَّلت دارُ الأرقم بن أبي الأرقم مركزًا للقيادة ومدرسة للدَّعوة في أحرج الأوقات، ما يعني أنَّ التَّربية والتَّعليم أساسٌ في المنظومة الإسلاميَّة، وأنَّ العمل الجماعيَّ برأسٍ قياديٍّ ينجح لا محالة.
وأوصي طلاَّب العلم بجمع السُّور المكِّيَّة للفترة السِّرِّيَّة خصوصًا والرِّوايات المكِّيَّة عمومًا ثمَّ دراستها دراسة تحليليَّة وموضوعيَّة، لما فيه من فوائد تعود على دارس السِّيرة النَّبويَّة. وكذا دراسة شخصيَّة أبي بكر الصِّدِّيق الدَّعويَّة، للوقوف على الآليَّة المُثلى التي وظَّف من خلالها معارفَه وإمكاناتِه في الدَّعوة إلى الله تعالى.
المقدمة
منذ فجر الرِّسالة وفي أحرج السَّنوات التي قضاها النَّبيُّ r في الدَّعوة إلى الله تعالى، اهتمَّت المرحلة المكِّيَّة -من عمر البِعثة المحمَّديَّة- بصناعة الشَّخصيَّة الإسلاميَّة للإنسان الجديد([1])، وأسَّس النَّبيُّ r لهذا الغرض أُولى المؤسَّساتِ التَّربويَّة، في دار عُرفت باسم صاحبها الأرقم بن أبي الأرقم t، ففتح اللهُ تعالى به القلوبَ وبصَّر به العيون وشرح به الصُّدور، حتَّى أضحت القيمُ والأخلاق ثقافةَ مسلمٍ وسجيةَ إنسانٍ جديد.
تأتي هذه الورقة البحثيَّة في خدمة هذا الحدث بعنوان: “دار الأرقم بن أبي الأرقم وأثرُها في بناء الأُمَّة وقيام الدَّولة”.
([1]) لراقمه بحثٌ محكَّم بعنوان: الشاكلة الشخصية وأثرها في الاجتهادات الشرعية، مجلة البحث العلمي الإسلامي، ع 37، ص 215.
[1]) لراقمه بحثٌ محكَّم بعنوان: الشاكلة الشخصية وأثرها في الاجتهادات الشرعية، مجلة البحث العلمي الإسلامي، ع 37، ص 215.
إشكاليَّة البحث:
- ثمَّ تعانقٌ بين الدَّعوة السِّرِّيَّة ودار الأرقم، فبمجرَّد أن يسمع الباحث أو يقرأ عن هذه الدَّعوة تتسارع إلى مُخيِّلته ويتبادر إلى ذهنه مجلسُ النَّبيِّ r إلى أصحابه في دار الأرقم، والعكس كذلك صحيح. إنَّه المَحضِن الأوَّلُ لنشوء الإسلام ودعوة النَّبيِّ r، والمِظلَّة التي استظلَّ في أفيائها السَّابقون الأوائل إلى فيافي الرُّوح والثَّقافة والمعرفة. وإنَّنا إذ نسلِّم بأنَّ تحرُّكات النَّبيِّ rهي بتسديد من السَّماء التي كلأته صغيرًا وأحاطته شابًّا يفيعًا وعصمته كهلاً رشيدًا، ونؤمن أيضًا بأنَّ الدَّعوة الإسلاميَّة تجمع في خطابها بين القلب والعاطفة وبين العقل البرهان، ومع هذا وذاك فقد آثر النَّبيُّ r ظلالَ السِّرِّيَّة ولاذ بأصحابه إلى دار نأيَّة؛ فنتساءل:
– لماذا أسرَّ النَّبيُّ بدعوته، ثمَّ خصَّ لاجتماعاته ولقاءاته دارَ الأرقم بالذَّات في تكتُّمٍ وسرِّيَّة تامَّة؟ وفي السُّؤال (لماذا) بحثٌ عن العِلل والمُسوِّغات، وهذا ما يدلف إلى تساؤلات مهمَّة تصبُّ في خدمة الإشكاليَّة العامَّة وتثير النَّظرَ والتَّأمُّل في مجريات أحداثها:
– هل كانت هذه اللِّقاءات فرارًا من مواجهة قريش وانهزامًا عن المواجهة والصَّدع بالحقِّ، أم هي منتهى الحكمة والحرص والتَّفرُّغ للتَّربية والتَّعليم والإعداد؟
– ما الدَّورُ الذي باشره عمرُ بن الخطَّاب t عقب إسلامه، وتداعياته على الدَّعوة في دار الأرقم؟
– أصحيح أنَّ النَّبيَّ أرجأ تأسيس الدَّولة إلى المدينة إثرَ هجرته إليها؟ - فرضيَّات البحث:
– اقتضت مصلحة الدَّعوة في بُكورها أن تتَّسم بالسِّرِّيَّة تحت وطأة تعصَّب قريش لموروثهم، واستطالتِهم في الانكباب عليه وحماية مُلكهم، فالإسرارُ ضرورةٌ مرحليَّة فرضتها البيئةُ والأحوال الملتفَّة.
– وقع الاختيار على دار الأرقم لمسوِّغات لوجستيَّة وأمنيَّة احتاجتها الدَّعوةُ في تيك المرحلة للتَّعمية على قريش والنُّهوض بأعباء الرِّسالة
– للدَّعوة في دار الأرقم ارتباطٌ ببناء الأُمَّة وقيام الدَّولة، برز ذلك في البرنامج العمليِّ الذي ابتدأه النَّبيُّ r في مكَّة وأكمله في المدينة.
– يأتي إسلامُ عمرَ في سياقات الرِّعاية الرَّبَّانيَّة لتثبيت النَّبيِّ ودعم المسلمين لِما تحلَّى به من القُوَّة والمَنَعة والمُكنة، فشقَّ إسلامُه طريقَ العبور إلى شمس الحُرِّيَّة.
– ابتدأ العملُ لقيام الدَّولة منذ فجر البِعثة وتنزُّل الآيات الكريمات بما تتضمَّنه من معانٍ تأسيسيَّة لا تخفى على متدبِّرها. - أهداف البحث:
يقصد البحثُ إلى تحقيق جملةٍ من الأهداف المعرفيَّة والوجدانيَّة والمهاريَّة، لقياس مدى إمكانيَّة مقاربتها في واقعنا المعاصر، بغيةَ الاقتداء بالأسوة وإجراء تغيير يقود إلى السَّكينة المجتمعيَّة، ومن هذه الأهداف ما يأتي:
- إطلاعُ الجيل الصَّاعد على جوانبَ من السِّيرة النَّبويَّة لتثبيتهم، وبَعثِ الأمل في قلوب شعبنا المكلوم في وطننا، جرَّاءَ الأزمات التي توالت عليه.
- تحقيق القول في حدث استرتيجيٍّ مكَّن للدَّعوة الإسلاميَّة في نفوس أهلها وتاليًا في المجتمع، وأفسحت أُسسُه الرَّكينة في أن تظهر ثمارُه دولةً مكينة.
- النَّظر والتَّأمُّل في مدى الاستفادة من حدث دار الأرقم في العهد المكِّيِّ في تنزيله على واقعنا اليومَ في لبنان، برجاء التَّبصُّر في طريق الخلاص الدُّنيويِّ والأُخرويِّ.
- منهج البحث:
سار البحثُ في ضوء المنهج التَّاريخيِّ- التَّحليليِّ، إذ عاد لزامًا إلى مصادر التَّاريخ وتلك المصاحِبة لها من أصول روائيَّة، واستدعى أخبارًا ومرويَّات تؤرِّخ لتلك المرحلة، ثمَّ عمل على الحفر فيها واستخلاص عِبرها ومراميها.
- الدِّراسات السَّابقة ونقدها:
ثرَّةٌ هي كتب السِّير والتَّراجم والرِّواية التي عُنيت بالتَّأريخ لحياة النَّبيِّ r بحدث دار الأرقم، فلا يخلو كتابٌ من الحديث عنه. كذلك هي كتابات المعاصرين الذين تناولوا السِّيرة النَّبويَّة دراسةً وفِقهًا وتحليلاً واستنباطًا، ممَّا يتعذَّر معه دراستُها هنا ونقدها في هذه العُجالة، وإلاَّ خرج البحثُ عن مساره وتجاوز حدودَه. لذلك يمكن القول بكلِّ اطمئنان: لقد استفاد البحث من جهود السَّابقين ولم يغمط حقَّ المعاصرين، والكلُّ يحاول أن يسجِّل اسمَه في سجلِّ سيِّد الخالدين r. فهذه محاولة تذهب بدراسة هذا الحدث إلى محاولة الإفادة منه في واقع معايَش، ولعلَّ هذه الضَّميمةَ الجديدةَ هي الشَّفيعةُ.
- خطَّة البحث:
نظمت عِقد البحث في مقدِّمة، وتمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة، على الوجه الآتي:
التمهيد: التعريف بدار الأرقم بن أبي الأرقم.
المبحث الأوَّل: الإسرار في الدَّعوة والحاجة إلى الاجتماع بالمدعوين، وفيه مطلبان، هما:
المطلب الأوَّل: مُوجِبات الإسرار في الدَّعوة إلى الإسلام.
المطلب الثَّاني: حاجة الدَّاعية إلى الاجتماع بالمدعوين.
المبحث الثَّاني: دار الأرقم ودورها التَّربويُّ، وفيه مطلبان، هما:
المطلب الأوَّل: مباني التَّربية في دار الأرقم.
المطلب الثَّاني: الأهداف التَّربويَّة لمدرسة دار الأرقم.
المبحث الثَّالث: دار الأرقم وقيام الدَّولة وأثرها في المجتمع المعاصر، وفيه مطلبان، هما:
المطلب الأوَّل: دار الأرقم ومرتكزات قيام الدَّولة.
المطلب الثَّاني: دار الأرقم وأثرها في المجتمع المعاصر.
الخاتمة، وتضمَّنت: أهمَّ النَّتائج، والتَّوصيات.
التمهيد: التعريف بدار الأرقم بن أبي الأرقم
دار الأرقم بيت يُنسب إلى الصَّحابيِّ الجليل أبي عبد الله الأرقم بن أبي الأرقم، واسم أبيه: عبد مَناف بن أسَد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرَّة بن كعب بن لؤي القرشيِّ المخزوميِّ، أحد السَّبَّاقين الأوَّلين إلى الإسلام، أسلم سابع سبعة أو عاشر عشرة. وكان من عقلاء قريش وسادات المسلمين. هاجر إلى المدينة وآخى النَّبيُّ r بينه وبين أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاريِّ (ت34هـ) t، وشهد بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهدَ كلَّها، ونفَّله النَّبيُّ r يومَ بدر سيف ابن عائذ المخزوميِّ المرزبان بسؤالٍ منه “وكَانَ رَسُولُ اللهِ r لا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ”، واستعمله على الصَّدقات. عاش الأرقم حوالي ثلاث وثمانين سنة، وعاصر الخلفاءَ الأربعة وماتوا وهم راضون عنه، وتوفِّي في إمارة مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية t قرابة سنة 53هـ، فيستنتج أنه وُلد في عقد السنوات 30-40 ق.هـ، وصلَّى عليه سعدُ بن أبي وقَّاص t بوصيَّته، ودُفن بالبقيع([1]). روى عن النَّبيِّ r أحاديث، وعنه ابنه عثمانُ وحفيدُه عبد الله بن عثمان بن الأرقم، وحديث عثمان عنه مرفوعًا في “مسند أحمد” في ذمِّ تخطِّي الرِّقاب يوم الجمعة([2]). وله فيه آخر من طريق حفيده عبد الله بن عثمان، عنه، في فضل الصَّلاة في المسجد النَّبويِّ([3])، وفيه أنَّ الأرقم جلس وعاد إلى داره مطيعًا للنَّبيِّ r ومنفِّذًا توجيهاته([4]).
تقع دار الأرقم عند جبل الصَّفا، تخفَّى فيها النَّبيُّ r في أوائل الإسلام للدَّعوة إلى الله تعالى، والمسلمون معه بمكَّة لمَّا خافوا المشركين، فكانت ملجأ لهم، وفيها أسلم جماعة كثيرة، فلم يزالوا بها حتى كملوا أربعين رجلاً، وكان آخرهم إسلامًا عمر بن الخطَّاب t، فكان إسلامُه فتحًا للمسلمين.
ويذهب أبو الطَّيب الفاسيُّ إلى أنَّ “هذا الموضع أفضل الأماكن بمكَّة بعد دار خديجة بنت خويلد، لكثرة مُكث النَّبيِّ rفيه يدعو النَّاسَ للإسلام مستخفيًا، وإقامته r بهذا الموضع دون إقامته بدار خديجة”([5]).
اتُّخذت دارُ الأرقم بعد ذلك مسجدًا، وعُرفت بدار الخيزُران زوجة المهديِّ العبَّاسيِّ (ت173هـ)([6]). ثمَّ هُدمت دارُ الأرقم في التَّوسعة السُّعوديَّة سنة 1399هـ، قال عاتق البلادي (ت1431هـ): “ومكانها اليومَ في ساحةٍ لوقوف السَّيَّارات، شرق المسعى، ورأيت عليها علامة لا يعرفها أكثرُ النَّاس”([7]).
روى ابن سعد عن عثمان بن الأرقم أنَّه قال: “أنا ابن سبعة في الإسلام، أسلم أبي سابعَ سبعة، وكانت دارُه بمكَّة على الصَّفا، وهي الدَّار التي كان النَّبيُّ r يكون فيها أولَ الإسلام، وفيها دعا النَّاسَ إلى الإسلام، وأسلم فيها قومٌ كثير، وقال ليلةَ الاثنين فيها: “اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسْلامَ بِأحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إلَيْكَ: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أوْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ”. فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرةً، فأسلم في دار الأرقم، وخرجوا منها فكبَّروا وطافوا البيت ظاهرين، ودُعيت دار الأرقم: دار الإسلام”. وساق خبرًا طويلاً عن هذه الدَّار([8]). وورد أنَّ رسول الله r أعطى الأرقمَ نظيرَ ما قدَّم دارًا بالمدينة، “ولعلَّ هذا مكافأة له على ما أدَّته دارُه بمكَّة من خدمة جليلة للإسلام في أوَّل عهده”([9]).
([1]) ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله (ت463هـ). الاستيعاب في معرفة الأصحاب. تحقيق: علي محمد البجاوي، بيروت، دار الجيل، ط1، 1412هـ/1992م، 4ج. 1/131، 2/764. ابن الأثير، علي بن محمد (ت630هـ). أُسد الغابة في معرفة الصحابة. بيروت، دار الفكر، 1409هـ/1989م، 6ج. 1/74.
([2]) أحمد بن حنبل (ت241هـ). مسند الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق: شعيب الأرنؤوط- عادل مرشد وآخرين، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ/2001 م، 45ج. 24/182. وينظر: الألباني، محمد ناصر الدين (ت1420هـ). سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة. الرياض، دار المعارف، ط1، 1412هـ/1992م، 14ج. 6/331، رقم: 2811.
([3]) أحمد. المسند. 39/434. الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله (ت405هـ). المستدرك على الصحيحين. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1411هـ/1990م، 4ج. 3/576، وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبيُّ.
([4]) ابن قانع، عبد الباقي (ت351هـ). معجم الصحابة. تحقيق: صلاح بن سالم المصراتي، المدينة المنورة، مكتبة الغرباء الأثرية، ط1، 1418هـ، 3ج. 1/47. أبو نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت430هـ). معرفة الصحابة. تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، الرياض، دار الوطن، ط1، 1419هـ/1998م، 7ج. 1/323.
([5]) ينظر: الفاسي، محمد بن أحمد (ت832هـ). شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام. بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ/2000م، 2ج. 1/363.
([6]) الأزرقي، محمد بن عبد الله (ت250هـ). أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار. تحقيق: رشدي الصالح ملحس، بيروت، دار الأندلس للنشر، 2ج. 2/200. الفاكهي، محمد بن إسحاق (ت272هـ). أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه. تحقيق: د. عبد الملك عبد الله دهيش، بيروت، دار خضر، ط2، 1414هـ، 6ج. 3/387.
([7]) ينظر: البلادي الحربي، عاتق بن غيث (ت1431هـ). معالم مكة التاريخية والأثرية. دار مكة، ط1، 1400هـ/1980م. ص 272. شُرَّاب، محمد بن محمد حسن. المعالم الأثيرة في السنة والسيرة. دمشق، دار القلم، ط1، 1411هـ. ص 241.
([8]) ابن سعد، محمد (ت230هـ). الطبقات الكبرى. تحقيق: إحسان عباس، بيروت، دار صادر، ط1، 1968م، 8ج. 3/242-243. الحاكم. المستدرك على الصحيحين. 3/574.
([9]) أبو شهبة، محمد بن محمد (ت1403هـ). السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة. دمشق، دار القلم، ط8، 1427هـ، 2ج. 1/289.
المبحث الأوَّل: الإسرار في الدَّعوة والحاجة إلى الاجتماع بالمدعوين
المطلب الأوَّل: مُوجِبات الإسرار في الدَّعوة إلى الإسلام:
لئن كانت العنايةُ الإلهيَّة قد أحاطت النَّبيَّ مذ كان وليدًا بل قبل ذلك؛ فشقَّ الله له الصَّدر، وأظلَّته الغمامة، وسلَّم عليه الحجرُ، فلماذا يتخفَّى بدعوته؟ ولماذا يختار لها أُناسًا لا يتجاوزون أصابعَ اليد الواحدة؟
إنَّ المدَّة التي استغرقتها السَّماء في إعداد النَّبيِّ توحي إلى التَّأنِّي في التَّربية والتَّدرُّج في دعوة النَّاس وحَمْلِهم على الرِّسالة. من جهة ثانية، يوجَد تلازمٌ وثيقُ اللُّحمة بين المحافظة على النَّفس وبين المحافظة على الدَّعوة، لجهة أنَّ الأوَّلَ شرطٌ في الثَّاني. ولمزيد حرصِ النَّبيِّ والأحوال التي فرضت نفسَها في بطحاء مكَّة، وكونِها قد تتكرَّر في غير ما زمانٍ ومكان وإنسان، لذلك وجَّهته العناية الإلهيَّة أن يمشي بالدَّعوة سرًّا وألاَّ يجهر بها بضع سنين، “فلم يكن يدعو إلاَّ مَن كانت تشدُّه إليه قرابة أو معرفة سابقة”([1]). ما يلفت إلى أهمِّيَّة التَّخطيط في العمل البنائيِّ عمومًا ولا سيَّما في الدَّعويِّ منه، وانتخاب ما هو الأصلح دومًا وعدم التَّسرُّع والاستعجال، لأنَّ الأخذ بهذه المعايير وعدمَ تجاهُلِها يتطابق مع السُّنن الإلهيَّة المودَعة في الكون، ويُعتبَر تجاوزُها تعدِّيًا غيرَ مرغوبٍ فيه. ما يؤكِّد أهمِّيَّة دراسة السِّيرة في فهم أبعاد التَّشريع السَّماويِّ.
ثمَّ لا علاقةَ إطلاقًا لهذا التَّخفِّي والإسرار بموضوع الجُبن والقعود عن مواجهة الباطل، لأنَّ مَن اختار هذه الدَّعوةَ وهو يعلم مغبَّة إيمانه بها في أصعب الظُّروف وأشدِّ الأحوال، ومع هذا تراه يتحدَّاها، فإنَّه لا يوصَفُ بالجبن قطعًا، وإنما ثمَّة فرقٌ بين الأخذ بالتَّدابير اللاَّزِمة لتخطِّي الأزمة وتجاوُزِها بأقلِّ الأضرار والخسائر، وبين التَّهوُّر والمغامرة والاستعراض. وإنَّ مراعاةَ هذا الجانب من قِبَل النَّبيِّ r مِن شأنه أن يُجنِّب المسلمين المفاجآت العدوانيَّة التي كانوا يتخوَّفونها، لما يعرفونه من عنجهيَّة قريش وشرِّهم وإغراقهم في الصَّنميَّة التي سيطرت على عقولهم واستحوذت على ألبابهم، إلى درجة أن يذبحوا لها أبناءهم ويقدِّموا لها نفائس أموالهم.
ولمَّا كان البقاء على قيد الحياة والمحافظة على الأعضاء غريزةً في المخلوق، قاده ذلك إلى أن يتعلَّم كيف يحافظ على حياته، وأن يحسن التَّكيُّفَ مع بيئته ومحيطه في سبيل درء المفاسد عنه وجلب المصالح له ولمجتمعه، والنُّهوضَ بدوره في الحياة الاجتماعيَّة. وإنَّ هذا يُعَدُّ من أبرز سمات الدَّاعية والمصلح، فكيف بالنَّبيِّ؟! لذلك بنى النَّبيُّ r في ظلِّ سِرِّيَّةِ الدَّعوة إلى الإسلام الأجهزةَ الأمنيَّةَ التي تضلَّعت بأخطر المهامِّ وأدقِّها، وهي البحثُ عن الأشخاص المناسبين لتقديم الدَّعوة إليهم، في جوٍّ يأمنون فيه من كيد قريش، فلا يتفلَّت منهم مدعوٌّ وينقلب عليهم أو يَشي بهم. ويومض إلى هذا المعنى قولُ عمَّار بن ياسر t: “لقيتُ صهيب بن سِنان t على باب دار الأرقم ورسولُ الله r فيها، فقلتُ له: ما تريدُ؟ قال لي: ما تريدُ أنتَ؟ فقلت: أردتُ أن أدخل على محمَّد فأسمعَ كلامه. قال: وأنا أريد ذلك. فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثمَّ مكثنا يومَنا على ذلك حتَّى أمسينا، ثمَّ خرجنا ونحن مُستخفُون”([2]). وبنحوه لمَّا “بلغ مصعبَ بنَ عُمير t أنَّ رسول الله r يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فدخل عليه فأسلم وصَدَّقَ به، وخرج فكتم إسلامُه خوفًا…”([3]).
([1]) البوطي، محمد سعيد رمضان (ت1434هـ). فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة. دمشق، دار الفكر، ط25، 1426هـ. ص 68.
([2]) ابن سعد. الطبقات الكبرى. 3/247.
([3]) ابن سعد. الطبقات الكبرى. 3/116.